مفهوم الزواج

مرتضى علي الحلي

انطلاقاً مِنْ عقيدتنا القويمةِ, بأنَّ القرآنَ الكريمَ هو كتابُ هدايةٍ ورشدٍ للإنسانِ في وجودِه في هذه الحياةِ الدينا, يقومُ على أساسين رئيسين, هما التشريع والمِنهاج, قالَ تعالى (( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا))(48) المائدة., ويقيناً أنَّ الزواجَ بمفهومه وأحكامه وطريقته, هو مِنْ جملةِ ما طَرَقه القرآنُ الكريمُ, بقصدِ تحقيقِ الغرضِ منه, سلوكاً, وخياراً ومَصلحةً وحِفظاً, لِما يُمثِّله مفهومُ الزواج في حد نفسه بوصفه, عُلقةً مُقدَّسةً وشِركةً حقيقيةً بين الزوجين, إذ به يُحفَظُ النوعُ الإنساني وجوداً وبقاءً, و يُوجدُ الاستقرارُ النفسي والذهني والسلوكي عند الزوجين, لذا حَثَّ عليه الشَرعُ الإسلامي الحَكيم وسُنّةُ المعصومين الشريفةُ -النبي الأكرم والأئمة المعصومين –

قال اللهُ تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}النور32.
وروي أنَّ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلّم، قال: (النكاحُ سنتي فمَنْ لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإنِّي مُكاثرٌ بكم الأممَ): كنز العمال، المتقي الهندي،ج16، ص272.
وعن الإمام مُحَمّد الباقر، عليه السلام، أنه قال: قال رسولُ الله: صلى الله عليه وآله وسلّم، (ما بُنيَ بِناءٌ في الإسلام أحبُّ إلى اللهِ عز وجل من التزويج): وسائلُ الشيعة، الحر العاملي، ج20، ص14.
لاشَكَّ أنَّ الإقدامَ على الزواجِ هو أمرٌ فطريٌ وطبيعيٌ عند الإنسانِ, ذكرٍ أو انثىٍ، لأنَّ الزواجَ هو الوسيلةُ الوحيدةُ شرعا، لإشباعِ الحاجةِ عند الصنفين، والمؤسِّسُ للأسرةِ الصالحةِ وكَسبُ الذريةِ الطيبةِ، والزواجُ هو المُحصِّنُ الحقيقي للمتزوجِ أو المتزوجةِ، ضد ما حرّمَ اللهُِ تعالى، من السلوكياتِ الضالةِ والمُحرّمةِ، ولو نظرنا في الرواياتِ الصحيحةِ والمُعتبرةِ، وما أعطّتْ للزواجِ من قيمةٍ تبلغُ نصفَ الدينِ، لأدركنا قدسيَّةَ وحِكمةَ الزواجِ شرعاً، كما في الحديثِ الشريفِ المَروي عن رسولِ اللهِ – صلى الله على وآله وسلم: (مَن تزوجَ أحرَزَ نصف دينه، فليتق اللهَ في النصفِ الباقي): المُقنع، الصدوق، ص301.
فالشقُّ الأولُ مِن الحديثِ هذا، يعطينا انطباعاً بأنَّ تهذيبَ النفسِ وشهواتها، إنما يتمُّ بالزواجِ الشرعي بمقدارٍ، يوازي نصفَ الدينِ سلوكاً وبناءً، باعتبارِ أنَّ الدينَ يهدفُ إلى تربيةِ غريزةِ الإنسانِ، تربيةً صحيحةً، وقويمةً ومُثمرةً، بصورةٍ تكفلُ تأمينَ الحاجاتِ والرغباتِ عند الإنسانِ، بما يتمكّن معه من تطبيقِ نصفِ ما أرادَ اللهُ تعالى منه، وأما الشقُّ الثاني مِنْ الحديثِ، فهو يتوقفُ في إتمامه وإحرازه على ضبطِ النصفِ الأولِ من الدينِ والذهابِ به وجهَةَ إكمالِ النصف الآخر على مستوى النفسِ والأسرةِ والمجتمع, وعلى مستوى العلاقة مع اللهِ تعالى و دينه الحقِّ, عقيدةً وشريعةً, وحتى أنَّ الرواياتَ أعطَتْ قيمةً وتفاضلاً لصلاة المتزوجِ على الأعزبِ, تحفيزاً له وتكميلاً لدينه, (فعن أبي عبد الله الإمام جعفر الصادق, عليه السلام, أنه قال: ركعتان يُصليهما مُتزوجٌ أفضلُ مِن سبعين ركعةٍ يُصليهما غير متزوجٍ ):ثواب الأعمال, الصدوق,ص40، وللحفاظ على قيمةِ الزواجِ جاءت الشريعةُ الإسلاميةُ بعقوبةِ الرَجمِ بالحجارةِ حتى الموتَ للزاني من المتزوجين المُحصنين, ذلك لِما يُنتَهَكُ من قدسيّةِ الأعراضِ وصيانتها, وإنَّ التلبسَ بعنوانِ الزواجِ, هو يُمثلُّ صياغةً اجتماعيةً للتعايشِ المُشتركِ بين الزوجين, تقريراً وتحديداً لرغباتِ النفسِ وطموحاتها, وترويحاً للوجدانِ العاطفي في وجودِ الإنسان, إذ أنَّ الشدَّ العاطفي والمَيلَ النفساني, هو حقيقةٌ واقعيةٌ عند الرجلِ والمرأةِ, يتجلى في صورة الرغبةِ والإرادةِ بالارتباط والتعلقِ معاً, بينهما وداً ورحمةً,وهو ما عبّر عنه القرآنُ الكريمُ, حينما بيّنَ علّةَ طلبِ الزواجِ بالسَكنِ أو السكونِ مُطلقا, نفسيا وذهنيا وسلوكيا, قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الروم21.
وهذا يعني أنَّ فترةَ ما قَبلَ التلبسِ بالزواجِ, هي فترةٌ, وحركةٌ غيرِ مُستقرةٍ وغير مُتزنةٍ في سبيلها, فلا يَقرُّ لها قراراً, إلاَّ بالزواجِ, وهو السَكن أو السكون الفعلي, لحركةِ النفسِ في طلبِ ونيلِ وتحقيقِ الشهواتِ المشروعةِ,( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ)(14)آلِ عمران, أو قد يكونُ مَفهومُ السَكنِ والسكونُ, هو أنَّ الزواجَ قد يوفِّرُ في ماهيته وآثاره مَلاذاً آمنا ومشروعاً, يتمكّنُ به الزوجُ مِن الرفثِ إلى زوجته وظلالها التي تحنو عليه وتعطفُ وتلاطفُ وتؤنسُ وترقُ, مما يدفعُ كُلَّ تذبذبٍ نفساني أو سلوكي عند الزوجِ وحتى عند الزوجةِ.
فالزوجةُ أيضاً ترى الزواجَ سَكناً وسكوناً في كونها, وقد انشدتْ إلى زوجٍ حبيبٍ ولطيفٍ ومأمونٍ عليها, تتأملُ منه الخيرَ لتعيشَ في حانيته مأمونةً مَصونة, وإننا حينما نختارُ الزواجَ الشرعي مَنهجاً وقيَماً إنما نختارُ ما فيه خيرنا وصلاحنا ومصلحتنا وفوزنا يقيناً, (عن أبي جعفر الإمام محمد الباقر, عليه السلام, أنّه قال: قال رسولُ الله: صلى الله عليه وآله: قال الله عز وجل: إذا أردتُ أنْ أجمعَ للمُسلمِّ خيرَ الدنيا والآخرة, جعلتُ له قلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وجَسداً على البلاءِ صابراً وزوجة مؤمنةً, تسره إذا نظرَ إليها وتحفظه إذا غابَ عنها في نفسها و ماله ):الكافي, الكليني,ج5,ص327.
وتكمنُ قيمةُ الزوج فيما لو توفّرتْ فيه ميزاتٌ رئيسةٌ وأهمها. التديُّن والخُلُق والقدرة على تدبير أمره, هذا ما أكّدت عليه الروايات في مِنهاجِ الزواجِ وطلبه والتلبس به, (عن أبي جعفر الإمام الباقر, عليه السلام: أنه قال: قال رسول الله: إذا جاءكم مَن ترضونَ خُلقه ودينه فزوجوه وإنْ لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير):وسائلُ الشيعة, الحر العاملي,ج14,ص51.
(وعن أبي عبد الله الإمام جعفر الصادق: عليه السلام: أنه قال: الكفؤ أنْ يكونَ عفيفاً وعنده يَسارٌ ):الكافي, الكليني,ج5, ص347.
فالذي يبرزُ جَلياً هنا في مواصفاتِ الزوجِ الصالحِ, هو تدينه ووثاقة دينه وسلوكه, ولم نرى للمالِ أو المَنصب أو غيره أيّ معيارٍ أو قيمةٍ, عدا ما يُقوّمُ به حاله كفافاً ومعيشةً, بخلافِ ما يحصلُ اليوم مِن مَنعِ التزويجِ للرجل أو المرأةِ وفقاً للأمزجةِ والأهواءِ, أو رغبات الآباء والأمهات وغيرهم, مما يقفون عائقاً في حركةِ الصلاح والإصلاحِ التي تتحققُ بالتزويجِ وفقَ مَعاييرٍ أخلاقيةٍ قويمةٍ.
مِن هنا إذا ما توفّرتْ تلك الصفاتُ في الطالبِ للزواجِ, فينبغي تلبية طلبه وتزويجه دفعاً للفسادِ المُحتَمَلِ وقوعه عند الممنوع عنه التزويج رجلٌ أو امرأة, وهذا هو معنى قول المعصوم, عليه السلام, (وإنْ لا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبيرٌ) وكذلك الأمرُ في قيمةِ المرأةِ المرغوبِ الزواجِ بها, فقد ندبتْ الرواياتُ المأثورة عن المعصومين, عليهم السلام, إلى أهميةِ توافرِ ميزاتٍ رئيسةٍ عند المرأةِ وأهمها ما حمله متنُ هذه الرواية:
(عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي, صلى الله عليه وآله, فقال: إنَّ خيرَ نسائكم الولودُ الودودُ العفيفةُ، العزيزةُ في أهلها، الذليلةُ مع بعلها, المتبرجةُ مع زوجها، الحصانُ على غيره, التي تسمع قوله وتطيع أمره وإذا خلا بها بَذَلَتْ له ما يُريدُ منها, ولم تبذل كتبذل الرجل ) الكافي, الكليني, ج5,ص324.
بحيث لم تجعل الرواياتُ أيَّ قيمةٍ أو معيارٍ, لجمالِ المرأةِ أولاً وإن كان مَرغوباً به ومَطلوباً, بل جَعلَتْ المِعيارَ في الرغبةِ بالمرأةِ هو كونها مِن ذواتِ الدين, (روي عن رسول الله, صلى الله عليه وآله, أنه قال: انكح وعليك بذاتِ الدين تربتْ يداك ) أي خسرتَ فيما لو تَرَكتَ الزواجَ بالمُتدينة :الكافي, الكليني,ج5,ص332.

نشرت في الولاية العدد 100

مقالات ذات صله