الغنى و الفقر في نظر علي عليه السلام

الشيخ بدري البدري

للناس في فهم الغنى ومعناه مذاهب، وبلا ادنى شك انه من الصفات الايجابية التي يرغب فيها كل إمرئ لما يحمل في مضمونه من تقلبات مادية ومعنوية, فمن الناحية المادية يعني سد حاجات الانسان المختلفة من مأكل وملبس ومسكن ومركب وغيرها، ولازم ذلك ان يكون عزيزاً غير محتاج الا لخالقه، وتلك حالة من العبودية الكريمة التي تغني العبد عن الطلب من أقرانه وتقصر حاجته الى ربه الذي يعطيه حين يعطيه لحبه المطلق له المنزه عن الغايات الدنيئة، كما قد يعطي بعض الناس بعضهم عطايا ويتبعها بمنِ او أذى فيخلف في النفوس المهانة والذلة. 

المقصود بالغنى سد كل حاجة مادية وهو عكس الفقر الذي لا يقدر صاحبه على قضاء حوائجه ودفع النقص الحاصل عنده بسبب حالته فهو نقيض الغنى فالغني يستشعر بحالة من الراحة المعنوية اللازمة للحالة المادية فتراه قليل المؤنة في التفكير بأمر معاشه لجريانه معه بأحسن ما يكون فيخلف ذلك ايضا حالة من الاطمئنان المعنوي فالنفس اذا احرزت قوتها اطمأنت.
ان من اهم الابتلاءات التي تمر على الانسان في مسيرة حياته هي الفقر والغنى فالله يقلب الامور كيف يشاء ويدبر احوال عباده بحكمته التي تقتضي مصلحة هو يعلمها ولا يدركها الانسان الذي لا يتجاوز نظره وفكره الماديات ان يكون فلاناً غنيا منعما وفلانا آخر فقيرا معدما واخر متوسط الحال وهكذا.
فهذا هو واقع يعيشه الانسان وعليه تندرج اوضاعه فترى بعضهم يتكيّف مع وضعه ويسعى لتغيير حاله فإن تغيّر نحو الاحسن حمد الله وإلا صبر ورضيَ بتقديره له، وترى بعضهم الآخر يتضايق من حاله, ويعده امرا لا يليق به ومن المفترض ان تكون معيشته كما يريد هو، لا كما هو الواقع، ونسي ان هذا يستتبع اعتراضا على التقدير والحكمة الإلهية المتتبعة لحكم ومصالح خفية, يعلمها الله تعالى الذي يميز الناس يوم الجزاء على قدر تسليمهم وتحملهم لبلاءات الدنيا، فهو جعل هذا فقيرا واراد ان تكون وظيفته الصبر, وانه سوف يعوضه بخير واجر ومقامات معنوية في الدنيا والاخرة، وهذا الصبر يكون داعما له في تحمل بلاءات اخرى، ينشط من خلالها ويتفوق فيها، وليعلم المرء ان قلة ذات اليد والصبر عليها اهون بكثير من بعض المعاناة التي تمر عليه كالمعاناة البدنية, فإن المرض وما يصاحبه من صعوبات عديدة, ما يتبعه من اوجاع وآلام مختلفة اشد من العوز وقلة ما في اليد, كونه مما يمكن للإنسان التخلص او التخفف منه بالعمل ونحوه, بينما علة البدن فهو وان قدر احيانا على التخفف من ثقلها ولوزامها لكنه لا يقدر على ازاحتها بمفرده.
قال مولانا امير المؤمنين عليه السلام: (الا وان من البلاء الفاقة) نعم فالفاقة والحاجة نوع من البلاء الذي يراد من المبتلى به ان يتجاوزه بصبر لكي يظفر بجزاء الصابرين عند لقاء ربه وقبل ذلك قد يجازيه الله بحالة من الغنى كجزاء دنيوي فضلا عن الحالة المعنوية التي يعيشها الصابر ما يحصل عليه من فيوضات ربانية تقوي عنده جنبة الوصل مع ربه.
وفي مقابل بلاء الفقر – وهو نعمة مع الصبر كما مرّ- نعمة الغنى، حين ترى المولى الكريم وسَّع من رزقه على بعض عباده وتفضل عليهم وانعم, واراد من وراء ذلك الشكر فهو وظيفة نعمة الغنى, اراد مقابلة النعمة بالشكر والعرفان وإلا تَفرُّ, وحينئذ لا يمكن ردها كما قال عليه السلام: (احذروا نفار النعم, فما كل شارد مردود).
ومعنى الشكر الذي يستتبع بقاء النعم هو البذل مما انعم الله تعالى به وعدم البخل بالإنفاق, لأنه يؤدي الى الفقر وكذلك الحسرة عندما يرى الانسان غيره ينفق وتسخو نفسه بينما كان هو بذلك بخيلاً شحيحا، لذلك يقول مولانا علي (عليه السلام): (ان لله عباداً يختصهم بالنعم لمنافع العباد, فيقرها في ايديهم ما بذلوها, فإذا منعوها نزعها منهم ثم حولها الى غيرهم).
ولتأتي الحكمة مذكرة بقوله تعالى: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ){النحل/112}
لهذا علينا الاعتبار وان نوافق بين حالتي الصبر على الفاقة والشكر عند الغنى وعلى الانسان التيقّن التام بأن ما يحتاجه طوال بقائه الدنيوي مكفول له, وما عداه زائد عن حاجته اصلا فلماذا البخل به وهو سينتقل عنه؟!
وعلى الناس ان لا يصغوا الى وساوس الشيطان في عدم تفعيل نظام التكافل الاجتماعي في ما بينهم او يتخوفوا من الاحتياج المستقبلي وتوهم الافتقار عند الانفاق, وغيرها مما يمسك بيد الانسان في حاضره ليفتحها في مستقبله, وليتصور نفسه حين يدرج في كفنه, ولم يأخذ معه سواه من جميع ما ملّكه الله جل وعلا, وليسمع خطاب المولى عز اسمه حيث يقول: (وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) (94 الانعام).
ولئلا تأخذنا الحسرة لنعمل ما اراده المولى منا ونأخذ من سيرة الصالحين وسادتهم محمد وآله (عليهم الصلاة والسلام) وما اروع ما قاله وصي الرسول ومن وحي عبره وكلماته إذ اختزل معنى الغنى والفقر بكلمة موجزة إذ قال: (الغنى والفقر بعد العرض على الله).
ايّ يُصنف الناس بالغنى والفقر في دار الآخرة، فقد يكون الشخص فقيراً معدماً طول حياته ويأتي يوم القيامة اغنى الناس لأنه عمل لذلك اليوم وقدم مقدماته واتى بالصالحات وثقّل ميزانه بما كان كفيلا بغناه يوم العرض والحساب.
وقد يكون الشخص فقيرا في الدنيا ولكنه قد يأتي يوم الجزاء كذلك لعدم صبره وتقديمه لنفسه, وأما الغني من الناس في الدنيا فقد يأتي فقيرا في الاخرة لعدم شكره وأداء وظيفته وقد يأتي غنيا ايضا لعمله لآخرته وشكره نِعم ربه بالإنفاق والبذل فذاك هو السعيد في الدارين.
وفوق هذا وذاك ما اجمل ان يرضى المرء بما قدّر الله له من الحياة ويعمل بوظيفته تجاه ما قُدر له ليأتي يوم العطاء والجزاء فيلقى ربه بوجه حسن ومِنَحٍ كريمة يغبطه بها المؤمنون.

نشرت في الولاية العدد 101

مقالات ذات صله