الظلامة الكبرى

فاروق محسن ابو العبرة

مظلومية العترة الطاهرة لها شبه من سنن الانبياء بالاعتداء عليهم، وقسطا من محاربة شياطين الانس والجن لهم بذات الغرض الا يعبد الله في الارض حق عبادته.

وأول صرخة مظلوم في الاسلام واصعب مرحلة مرت على المسلمين في تاريخ الامة عقيب وفاة النبي صلى الله عليه واله هي قضية ما لحق بفاطمة الزهراء عليها السلام من أذى والتجربة الاسلامية لا زالت فتية والعدد الاكبر من المسلمين لم يستوعب من الدين الا في حدود بسيطة، والا ما تفسير تبديل وجه الولي الشرعي بوجه اخر للخلافة، والناس يبايعون ولهم بينات وشواهد متقدمة من رسول الله صلى الله عليه واله ان الخليفة من بعده امير المؤمنين علي بن ابي طالب صلوات الله عليه.
فالزهراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه واله بينت هذه الانتكاسة في خطبتها امام الخليفة الجديد ابان تقمصه الخلافة ومصادرته (فدك) هبة النبي صلى الله عليه واله لفاطمة عليها السلام.
فاستطاعت في ذلك المجلس ان تحدث وعّيا وثورة وانتباها بين من حضر، ولولا الخوف من السلطة بأول سطوة لكان للمسلمين شأن اخر في الفتنة والفلتة التي سقط فيها بعض من صحب النبي صلى الله عليه واله، فكانوا يبكون بكاء الثكلى لسلب ارادتهم.
ومن جملة ما قالت عليها السلام ارتجالا: (هذا والعهد قريب والكلم رحيب والجرح لما يندمل والرسول لما يقبر ابتدارا زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين).
فالخليفة الاول ومن عاضده كانوا يرومون من وراء سياستهم إلغاء الامتيازات المعطاة لأهل هذا البيت عليهم السلام، وإلغاء مكانتهم من اذهان الامة التي اعظم شأنها النبي صلى الله عليه واله مرار وتكرارا في مناسبات عدة من على منبر المسلمين واخرها في خطبته الشهيرة بحجة الوداع يوم غدير خم عندما قال: ايها الناس من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.. الى اخر الخطبة.
من هنا امتدت يد الجسارة اليهم وأحرق باب فاطمة عليها السلام وعصرت بين الحائط والباب مما ادى الى اسقاط جنينها، فكانت رسالة مفادها ان ليس لعلي وفاطمة عليهما السلام حرمة، وبالتالي انتزاع فكرة ان ليس لهما اية ميزة او حق فيما كان ينسب اليهما في حياة رسول الله صلى الله عليه واله، وان فاطمة امرأة كبقية النساء لا كما كان يصور لهم النبي صلى الله عليه واله، لذا لا يصح الاعتماد على اقوالها فلا استجابة لمطالبها لحق تدعيه في فدك او من تجديد طلب لحق زوجها في الخلافة، فكانت عليها السلام تذكرهم (انسيتم قول رسول الله صلى الله عليه واله يوم غدير خم).. (أما كان رسول الله صلى الله عليه واله ابي يقول: المرء يحفظ في ولده، وسرعان ما احدثتم..)
فالحزن والشجون التي كانت تثيرها الزهراء عليها السلام في كلامها ارادت من خلالها ابطال مغالطات الحاكم وادعاءاته عندما قرر القفز على الآيات، وفيما بعد كما يروي لنا التاريخ انهم منعوا تداول احاديث رسول الله صلى الله عليه واله وجمعوها واحرقوها بلا استثناء ووضعوا عقوبة لكل من يروي حديثا عنه صلى الله عليه واله وعلة المنع الا يذكر أحد حادثة من حوادث النبي صلى الله عليه واله فيها تمجيد لعلي واهل بيته عليهم السلام او فيها اثبات حق لهم.
ولأجل ما شعرت به الزهراء عليها السلام من عظيم الاسى من حجب الحقيقة الشرعية لحق زوجها امير المؤمنين في الخلافة وحقها الثابت في نحلتها فدك وفي بقية ما خصص لهم من حقوق وما تقرر لهما مع ابنيهما من سهم ذوي القربى (خمس الغنائم) الذي هو للنبي ولأهل بيته بخاصة لا لغيرهم ابدا كما في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِوي الْقُرْبَىٰ)
نعم كانت الزهراء تستشعر المرارة واستمرت في محفل خطبتها قائلة: (يا ابن ابي قحافة في كتاب الله ان ترث اباك ولا ارث ابي لقد جئت شيئا فريا، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم اذ يقول: (وورث سليمان داود) وحيث قال: (فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من ال يعقوب)).
فدفاع الزهراء عليها السلام كان عن الثوابت الالهية وعن سنة النبي صلى الله عليه واله اذ لم تر احداً يطالب باحقاق الحق الشرعي أو يتكلم بكلام لله فيه رضا، ومن أمامها سحبوا الامام عليه السلام حاسر الرأس حافي القدمين، فمن هوان الدنيا يساق راهب الاسلام وبطل المسلمين ابن عم الرسول وزوج ابنته ونفسه ووارثه ووصيه قسرا الى بيعة ابي بكر وهو يردد (انا عبد الله واخو رسول الله)، فخرجت باثره سيدة النساء فما بقت هاشمية الا خرجت خلفها وهي تقول: (خلوا عن ابن عمي..)
ان هذه الاحداث المؤلمة في حياة الزهراء عليها السلام اسست فكرا وعقيدة شقت طريقها الى اعماق المؤمنين في قلوبهم وعقولهم، وهي بعد على منصة خطبتها تعتصر من سماع انين الامام عليه السلام وهو يقول: (ويل لمن ظلمني ودفع حقي وأذهب عظيم منزلتي) وقال عليه السلام وهو يشير الى قبر النبي صلى الله عليه واله: (يا ابن أم ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني).
فمن وراء هذه الصور القاتمة قرأت الزهراء عليها السلام في المشهد القادم وتوقعت اياما صعبة ستجري عليهم من يوم اخشنوا قولهم للنبي صلى الله عليه واله وهو مسجى في مرضه بأنه (يهجر).
فأجهشت بالكباء في حينه وانكبت على صدر والدها وعلي عليه السلام واضعا رأسه في حجره فانتبه رسول الله صلى الله عليه واله بعد اغمائه وهو يجود في نفسه، فقال لعلي عليه السلام ما يبكيك يا علي؟
ليس هذا اوان بكاء فقد حان الفراق بيني وبينك فاستودعك الله يا أخي؟
فقد اختار لي ربي ما عنده، وانما بكائي وغمي وحزني عليك وعلى هذه.. واشار الى فاطمة أنها تضيع بعدي، فقد اجمع القوم على ظلمكم، وقد استودعتكم الله وقبلكم مني وديعة، ثم ضم فاطمة وقبل رأسها وقال: (فداك ابوك يا فاطمة) فعلا صوتها بالبكاء ثم ضمها اليه وقال: (أما والله لينتقمن الله ربي وليغضبن لغضبك، فالويل ثم الويل للظالمين ثم بكى رسول الله صلى الله عليه واله).
ثم قال صلى الله عليه واله: (يا بنية, الله خليفتي عليكم وهو خير خليفة, والذي بعثني بالحق لقد بكى لبكائك عرش الله وما حوله من الملائكة والسماوات والارضين وما بينهما, وإنك لأول خلق الله يدخل الجنة بعدي, حسن عن يمينك وحسين عن يسارك ولتشرفن من اعلى الجنان بين يدي الله في المقام الشريف, ولواء الحمد مع علي ابن ابي طالب عليه السلام.
والذي بعثني بالحق لأقومن بخصومة اعدائك, وليندمن قوم اخذوا حقك وقطعوا مودتك وكذبوا عليّ وليختلجن دوني, فأقول: امتي فيقال: انهم بدلوا بعدك وصاروا الى السعير) (بحار الأنوار: 22/490).

   نشرت في الولاية العدد 102

مقالات ذات صله