هل يعود للبلاغة مجدها

حيدر محمد حسين

حقق بنو البشر قفزات عملاقة في مجال العلوم التجريبية والعقلية، واستطاع هذا التقدم المنقطع النظير ان يأخذ بلباب عموم بني البشر، حتى جعلهم يؤمنون بان تفوق العقل البشري ليس له حدود في مضمار الصناعة والعلوم .
ونتيجة لهذا الانبهار الشديد، توجه عامة الناس الى تعلم تلك العلوم والتركيز عليها بحيث أغفلت فيه العديد من الجوانب المعرفية الأخرى، وبخاصة الجوانب الأدبية والإنسانية، وبلغ التراجع فيها إلى درجة أن أصبح العديد من هذه الجوانب ميتا بين الناس.
وربما كانت البلاغة في لغة التخاطب بين الناس – وبخاصة في امتنا العربية التي تفتخر بعظمة لغتها – احد أهم الجوانب التي منيت بخسارة أهلها ومتذوقيها.

نوعان من المعرفة
يمتلك الإنسان في واقع الأمر معرفتين يرتبطان مع بعضهما بشكل كبير الى درجة يصعب على الإنسان التمييز بينهما بشكل عام، المعرفة الأولى: ونسميها هنا اصطلاحا بالمعرفة العقلية التي تعتمد القواعد الفكرية المألوفة لدى الناس في ادراك حقيقة الاشياء، فالتفكير المنطقي، والاستقراء، والاستفادة من التجارب السابقة في بناء النظريات المعرفية المختلفة.. كلها امور تدور في محيط هذا النوع من المعرفة، وعامة البشر اليوم يألفونها ويتعاملون معها، وهي معرفة آلية جامدة، لها طرق معينة ثابتة للوصول اليها، وهي محدودة بهذه الطرق.
والمعرفة الثانية: ونسميها هنا اصطلاحا بالمعرفة الوجدانية، وهذه المعرفة تعتمد بالدرجة الأساس على الفطرة الإنسانية في معرفة حقائق الأشياء، وهي لا تحتاج إلى الكثير من القوانين والمعادلات الفكرية لإثبات نتائجها الصائبة، لان الإنسان يشعر بصدقها في أعماقه، تلقائيا ودون تكلف، وكل الناس يتحدون في نتائجها مهما تعددت ألوانهم وأجناسهم، لان فطرة الإنسان هي واحدة في الأصل.
فمعرفة الوجه الجميل من القبيح، ومعرفة اللحن العذب من النشاز، وتمييز الرائحة العطرة من النتنة، والحكم على حسن الاول وقبح الثاني من هذه الاشياء.. كلها امور يشترك في حكمها جميع بني البشر، ولا يحتاجون في معرفتها الى كثير تأمل او تسلسل منطقي او مقدمات استدلالية.
وكذا الحال في معرفة خطأ الكذب وصحة الصدق، ومحبوبية الشجاعة ومذمومية الجبن، وممدوحية الكرم ومكروهية البخل، فان كل ذلك حقائق تقف عليها المعرفة الوجدانية النابعة من فطرة الانسان التي يتفق عليها جميع الناس دون استثناء.

البلاغة تخاطب المعرفة الوجدانية
والكلام البليغ يستهدف المعرفة الثانية دون الاولى بالدرجة الاساس، اذ يتفاعل مع هذا الكلام وجدان الإنسان قبل ان يتفاعل معه عقله، وبالتالي فان الكلام البليغ يتناغم ويتخاطب مع فطرة الإنسان، فتستشعر الفطرة صدق هذا الكلام في وصف الواقع الذي تحسه، وتدرك صدق التعليم الذي يريد الكلام البليغ بيانه، لذا فان كان الكلام البليغ من اشرف الكلام وأعلاه، لأنه لا يستخدم القواعد المتعارفة التي يتمكن غالبية الناس من التعامل بها والاستفادة منها، وإنما يطوع البليغ الألفاظ البسيطة للكلام في تراكيب لغوية خاصة يجعلها تبلغ الفطرة الانسانية مباشرة وتقنعها بالمراد، دون أن يحتاج المرء الى الكثير من الاستدلالات في التعامل معها، وهذا بطبيعة الحال يتطلب من صاحب الكلام البليغ معرفة واسعة بطريقة التخاطب مع الفطرة الإنسانية، التي لا يعلم قواعدها وكيفية التأثير فيها إلا القلة من ذوي الإختصاص.
ونتيجة لما تقدم، سمي الكلام البليغ بليغا لأنه يبلغ أعماق النفس الإنسانية لكي يؤثر فيها حيث لا يتمكن الكلام العادي أن يبلغ ذلك المحل.
ولما كان الكلام البليغ يخاطب الفطرة ويتفاعل مع الوجدان، فانه لا يستخدم الإطالة في العبارات وكثرة التراكيب في الجمل لإيصال المعنى المراد –على خلاف متطلبات المعرفة العقلية- لان من طبيعة الفطرة الإنسانية البساطة وعدم التعقيد، وكلمات قصيرة ذات تركيب معين كافية لبيان المطلوب وتوضيح المراد، روي عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) انه قال: (البلاغة ما سهل على المنطق وخف على الفطنة) وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) انه قال حين سُئل عن البلاغة: (من عرف شيئا قلّ كلامه فيه، وإنما سمي البليغ لأنه يبلغ حاجته بأهون سعيه) ميزان الحكمة ج 1 – ص 290.

إهمال الوجدان خسارة للبلاغة
إن كثرة استخدام الناس في أزماننا هذه للمعرفة العقلية في التعامل مع الأشياء في حياتهم، واهمالهم للمعرفة الوجدانية بشكل كبير مقابل ذلك، جعلهم لا يستشعرون حقيقة الكلام البليغ وجماله الأخاذ، كما أنهم فقدوا الحس المرهف الذي يجعلهم يميزون اصلا بين الكلام البليغ والكلام العادي، فضلا عن تمييز درجة البلاغة وجودتها في الكلام، باعتبار ان للبلاغة مراتب كثيرة يفضل بعضها على بعض كما هو ثابت في محله.
ولذلك حاول الكثيرون نتيجة لذلك ان يفسروا البلاغة بعد أن فقدوا آلة تمييزها – وهي المعرفة الوجدانية- من خلال المعرفة العقلية التي يألفونها، فاخذ بعضهم يضع القواعد والمحددات الفكرية لكي يميز بواسطتها الكلام البليغ من غيره، وقد اخطأوا في ذلك، ودليل خطأهم ان كثيراً من التعاريف التي وضعوها للبلاغة بقيت تفسر البلاغة بمكملاتها دون أن يمسوا جوهرها الحقيقي، ولم ينفع المتعلمين لتلك المكملات تمييز البلاغة في الكلام والوقوف عليها.
لذلك تجد ان كثيرا من الناس قد اقروا في النهاية بأن للبلاغة أهلا.. هم وحدهم من يتذوقها من خلال ملكات تفردوا بها دون غيرهم، واقروا بان العصر الجاهلي في الجزيرة العربية كان يمثل ذروة الذين كانوا يميزون البلاغة في اللغة العربية ويتعاملون معها بالشكل السليم.

العصر الجاهلي والبلاغة
والواقع أن أهل ذلك العصر كانوا بالفعل يميزون الكلام البليغ، وذلك لان المعرفة الوجدانية كانت لديهم فاعلة، وقد تفوقوا في استعمالهم لها على استعمالهم للمعرفة العقلية، ولما كانت الأداة التي تمكنهم من تمييز البلاغة فعّالة، فقد برعوا في صياغة الكلام البليغ، وارتقوا في تذوقه والتأثر به، وبلغ تراكم الخبرة في استعمالها حدا جعلهم يتفنون فيها ويتسابقون في مضمارها، حيث كان هنالك الكلام البليغ والابلغ، وكان لذلك أحكام يحكمون فيها، فقد روي ان النابغة الذبياني كانت تنصب له قبة حمراء في سوق عكاظ ليستمع الى شعراء عصره ليحكم في الكلام الأكثر بلاغة، وبالتالي الكلام الأشد قيمة، على انهم لم يتجاهلوا مكملات الكلام البليغ، كفصاحة الألفاظ والمحسنات البديعية.

هل يعود للبلاغة مجدها؟
إذا، هل من الممكن أن يعود عصر رواج البلاغة بين الناس كما كان؟ وما المطلوب منا حتى نعيد للبلاغة مجدها؟
نحن نعتقد ان ذلك ممكن، وان كان أمرا صعبا في خضم المتغيرات الحالية، وعلى كل حال، ان الفرد من الناس اذا ما اراد ان يتذوق البلاغة، فعليه أن يُفعّل عمل فطرته ويقويها، وذلك من خلال مقويات المعارف الوجدانية، وعلى رأس تلك المقويات: التفكر في حقائق الكون بالنظر إليه مباشرة، وإعمال الفكر فيه لاستنباط ما فيه من جمال وجلال، وتصفية النفس من دنس الأمور التي تشوب الفطرة بالسواد، وتدفنها في ظلمات الكثرة والأسباب المادية.
ولعل احد أهم العوامل التي صقلت قابلية العرب في العصر الجاهلي في مضمار البلاغة هو: صفاء اجواءهم عن التعقيد، وانفتاحهم على الجمال الوجودي كما هو دون كدر الجمال المزيف.
ولدينا في تراثنا الإسلامي ما يغني هذه الحقيقة في الواقع، فقد دعا القران الكريم الناس إلى التفكر في حقائق هذا الكون من ناحية، والابتعاد عن كل ما يهبط بالإنسان إلى درك الظلمات النفسية، والإخلاد الى الأمور المادية المنافية للفطرة السلمية.
نحن نجد أن من أكثر الناس تفاعلا مع كلام القران الكريم –الذي اتفقت كلمة العرب على انه كلام معجز في بلاغته- هم المؤمنون الملتزمون بأحكام الدين الإسلامي، بحيث أنهم بمجرد الاستماع اليه يتفاعلون معه من أعماق أنفسهم، ويظهر ذلك عليهم بالتفاعلات النفسية المختلفة، وقد وصف الباري عز وجل هذه الحالات صريحا في آيات قرآنية كريمة، منها قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) الزمر/23 وقال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) المائدة/83 ومثل هذه التفاعلات هي من اصدق مصاديق تأثير الكلام البليغ في النفس الإنسانية الصافية.

نشرت في الولاية العدد 102

مقالات ذات صله