مشاهد الوحدة في التعبير القرآني

أ.م.د خليل خلف بشير

المتصفح لآيات التنزيل العزيز التي تحدثت عن الوحدة يجدها متنوعة فتارةً تصبّ في خدمة المسيرة الاجتماعية في العقيدة من خلال الاعتصام بدين الله .قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا…) (آل عمران/102-103).

يؤكد هذا المشهد مشهداً آخراً هو التمسك بالعروة الوثقى التي تمثل القوة، والثبات قال تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(البقرة/256)، وثانية تجري في القلوب، وعواطفها ومشاعرها، وانسجامها بعضها مع بعض في الموقف، والحركة من خلال العامل الغيبي المتمثل بالنعمة الإلهية، والنصر الرباني. قال تعالى (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً …) (آل عمران/103)،وقال ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ۞ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ( الأنفال/62-63)، وثالثة تتآزر الوحدة التاريخية، والاجتماعية جنباً إلى جنب من خلال تحويلها في جذرها العقائدي، والأخلاقي، وأهدافها في الحياة وأصولها الإنسانية إلى أمة الأنبياء (عليهم السلام) فإنهم بالرغم من اختلافهم لغةً، وزمانا، ومكاناً، وأقواماً إلا أنهم تربطهم الأهداف الاجتماعية، والغايات والمقاصد الإنسانية الواحدة، والوسائل الشريفة، والعقيدة والمفاهيم الواحدة بحيث تتكامل النظرة الشمولية الاجتماعية العالمية للأمة الإسلامية عموماً في جذور التاريخ الإنساني مع النظرة الشمولية العالمية للأقوام والشعوب في عصر الرسالة الإسلامية .قال تعالى ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/92)، وقال ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون/52) قال العلامة الطباطبائي في تفسير آية الأنبياء: ((الأمة جماعة يجمعها مقصد واحد، والخطاب في الآية على ما يشهد به سياق الآيات – خطاب عام يشمل جميع الأفراد المكلفين من الإنسان، والمراد بالأمة النوع الإنساني الذي هو نوع واحد..))، وألمح السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) في تعقيبه على الآية 92من سورة الأنبياء إلى أنّ المقصود بالأمة الواحدة جماعات من الناس ترتبط بروابط فكرية وعقائدية وسلوكية، وأهداف سياسية وحركية، وهي مجتمع متكامل يمثله جماعة من الأنبياء عبر التاريخ الإنساني وترتبط هذه الجماعة برباط الإيمان بالله تعالى وتوحيده، وبالغيب والوحي الإلهي، وبالدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، والتكامل في المسيرة الإنسانية بالرغم من تعددها في لغتها، وقومها، وأماكنها، وتاريخها.
ورابعة تمتد لتشمل الولاء لله تعالى، والبراءة من أعدائه إلى جميع تفاصيل الحياة الاجتماعية الإنسانية ليوحدها في إطار عملي واحد ويجعلها محوراً لها انطلاقاً من فكرة الولاء لله تعالى ورسوله والمؤمنين، والبراءة من الشركاء والأنداد لله تعالى، وما موقف إبراهيم (عليه السلام) إلا شاهد ومشهود على ولائه لله تعالى، وتبريه من قومه بسبب كفرهم بالله، وعبادتهم الأصنام .قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة/4)، وقل مثل هذا في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون۞ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة/23-24) .
ولذلك نجد القرآن الكريم يعبر عن إبراهيم (عليه السلام) بأنه لوحده أمة في قوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل/120) ؛ لقيامه مقام جماعة في عبادة الله كما يقال: (فلان في نفسه قبيلة)، أو أنّ إبراهيم (عليه السلام) ((كان أمةً منحصرة في واحد مدة من الزمان لم يكن على الأرض موحد يوحد الله غيره)) .
ومن المعلوم أن الأمة الإسلامية منذ بزوغ الإسلام ارتبطت بتعاليم السماء : القرآن من جهة، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو المفسر الأول للقرآن الكريم، من جهة ثانية، ويسمى هذا بعصر النبوة، وبعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يأتي عصر الإمامة، وهو عصر مكمل لدور النبوة، ويبدأ بالإمام علي (عليه السلام)، وينتهي بالإمام الحجة القائم المهدي الغائب(عج) الذي سوف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً؛ ولغياب الإمام المعصوم المفترض الطاعة كان لا بد من نائب ينوب عنه أو خلف يخلفه، وهنا يأتي دور المجتهد الجامع للشرائط بوصفه الوريث الطبيعي للأنبياء، والأوصياء إذ يقوم بالوظائف الأساسية للإمام، وهي : الولاية، والإفتاء، والقضاء، من هنا كان لا بد للأمة أن ترتبط بعلماء الدين المخلصين الواعين، وذلك ضماناً للمحافظة على وعي أبناء الأمة، واستقامتهم على الخط الصحيح؛ لأنً الأمة قد تتخلف أحياناً، أو تضلل أحيانا أخر، وقد تقهر ثالثة إلا أنها حينما ترتبط بالمرجعية الدينية، وبالتوجيه الديني والسياسي الصحيح الذي يمثله علماء الدين تكون متقدمة في وعيها، ومستقيمة في منهجها، وصلبة في إرادتها، وقادرة على صنع الحدث السياسي المهم . لذا فالأمة عبر وعيها الأصيل، وثقافتها الدينية، وارتباطها السياسي بالعلماء، وتفاعلها الكامل مع القيادة الدينية- قادرة على المبادرة السياسية، وصنع الحدث المهم. على أنّ خط الولاية لا يفترض حق الأمة في ممارسة عملها السياسي إلا في إطار ما يفرضه الشارع المقدس، وعبر ارتباطها بمراكز التوجيه الديني والسياسي الصحيح انتهاءً بإشراف المرجعية السياسية الرشيدة أو الولي الفقيه، والقائد الأعلى لمسيرة التجربة الذي يحدد بدوره الخطوط العريضة السليمة للحركة تاركاً التفصيلات، وتشخيص أمور حياتها إلى الأمة ذاتها، وقد حثّ القرآن على اتّباع أهل الذكر أي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،وأهل بيته الميامين، والعلماء المخلصين ممن يسمون بأهل الخبرة في قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل/43)، وقوله (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (الأنبياء/7) .

نشرت في الولاية العدد 103

مقالات ذات صله