رعاية الإبداع الشعري والقيمة الأخلاقية

رضاء صاحب الحكيم

لابد ان هناك سر وطريقة ومنهج تنتهجها الأمم لترتقي وتعلوا ، ومما لاشك فيه ان العلم والأخلاق مع صلاح العلاقة مع الخالق ، هي من أهم العوامل التي تدفع هذه الأمم للارتقاء نحو المجد والتفوق والتحضر . ومما لاشك فيه أن الإبداع بكل أشكاله وأصنافه هو كلمة سر بهذا الارتقاء لا مناص عنه ، ذلك لأن الإبداع هو خلاصة الوعي، وصيرورة إجابات الكون السرّية البعيدة عن الاجابات العقلانية المتعارف عليها ـ في شكل ولغة وصورة أقل ما يقال عنها انها ، جمالية ، تنضوي تحت طيّاتها تلك الاجابات والاستشرافات المفككة للعقد والدالة على الطرقات الصحيحة والمرجوة في مفترقاتها فضلا عن كمال الاحساس وبهائه المحرك للحياة نحو سبلها الانسانية ، لذا ان احتضان ورعاية ذلك الإبداع بشكل مدروس وصحيح هو السياسية المثلى التي يجب أن ينتهجها المجتمع كظهير للدولة ومؤسساتها ، لتتمكن من أخذ حيّز يناسب حجم ذلك العطاء من قبل المبدعين ورعايتهم أيّا كان شكل ذلك الابداع ، ولأي جنس انساني كائن .. 

الابداع والأخلاق
لكن قد يتبادر إلى الذهن كثيرٌ من التساؤلات التي تقف أحيانا في وسط تلك الرؤية اذا ما كانت سطحية وبسيطة المنطلق والفهم والتوجه لهذه العملية وفق ما نراه ونسمعه في واقعنا فيما يتعلق بهذا الابداع ، ماهيته ، وكيف يمكن ان يكون مظهره وجوهره وما هي مميزاته التي تمنحه التفرد والتفوق ليكون مؤثرا متوهجا فعالا ، مبدعا ، فثمة تعقيدات وتفاصيل تتداخل في تشكيل الموهبة والعمل المبدع في تفاصيل رسالته المؤثرة بالمجتمع وتوجهها المطلوب ، وأول تساؤل يتبادر إلى الذهن بهذا الصدد ، هو.. هل للأخلاق دور في تخريج تلك الموهبة وصقلها لجعلها مؤثرة ناجعة الفعل؟ وهل للعلاقة بين المبدعين ومن يتعلق ويتشبث بخيوطهم ـ كالناقدين والنقاد والمتلقين ـ أثر على انضاج ذلك النتاج ؟ وهل الثقافات الشوهاء والتراكمات السلوكية المنحرفة ـ والتي أصبح بعضها كمسلمات لا ينبغي مناقشتها بل اتباع ما تامر به والسلام ـ حاجز يقف في طريق الابداع ينبغي هدمه أولا ، أم يكتفي المبدعون وهم يحملون نتاجهم الإبداعي عبور وتسلق كل الموانع والعوائق مهما بلغت المشقة حداّ ومهما علا ذلك الجدار المانع ، ومهما بلغت الصعوبات؟ .
كثير من التساؤلات قد تغيب عنها الإجابة هنا . وكثير هي أشكال الإبداع وطرقاتها ، لكن ما يهمني هنا في هذه العجالة ، أن آخذ مثالا عن شكل من الإبداع أو الموهبة هو .. الشعر .
لعلني اخترت الشعر ، ذلك لأنني أجده أقرب الى نفسي أولا والى البيئة التي أعيش فيها ثانيا ، وأشير هنا الى المجتمع العربي عموما والنجفي خصوصا ، وثالثا للقدرة والسهولة الواضحة في حصر معايير ما سأقول وأشخص في تناول موضوعي هذا ، ولا سيما في علاقته الموضوعية والذاتية بالأخلاق .

الابداع جثة طاولة التشريح
ونحن اذا ما قاربنا أو تماهينا ما بين الشعر والأخلاق ، نجد اننا كلما نقترب ، نضع الشاعر تارة بعيدا عن الأخلاق والقيم وتارة معها ، بل في خضمها وجوهرها.. داعيا ومبلغا ورسولا منبئا ومستشرفا ، فنجده ذلك الشاعر مرة ، ملتزما يحمل هموم شعبه وزمنه والقضايا النبيلة والمصيرية لأمته وعشيرته وقبيلته ووطنه بل والأنسانية جمعاء، ومرة أخرى نجده ملازما للّهو والعبث والمجون والتيهان والانحدار الخلقي والقيمي ولربما الى الحضيض متخليا عن أي عفة وشرف ، وكلاهما شاعران يمجدهما الأدباء والناقدون فيضعون ذلك النتاج على منضدة النقد والتقييم كما يضع موظف الطب الشرعي جثة هامدة ويبدأ بتقصي الإجابات عن أسئلة لا تتعلق إلا بتلك الجثة الميتة ليغيب تماما السؤال عن روحها وعما فعلت تلك الجثة عندما كانت حية ترزق ، لأن النقد هنا علم ومن ليس خاضعا لقوانين الأخلاق والسلوك الذاتي والسيرة الشخصية، الا في منهج ضيق للدراسة يكاد ان يسرد هذا الموضوع على هامش تاريخ الشاعر بشكل سطحي يمر مرور الكرام، فالنقد غالبا يحاكم النص لا صاحبه، فيترك كل أثر للشاعر خارج النص لكاتب السيرة والمؤرخ الذي يمكنه ذكر مزايا وعيوب تلك الشخصية وأخلاقياتها ومواقفها دون المرور مثلا بما كان يضمره ذلك الشاعر لزملائه من حقد أو حسد وما يرتكبه من جرائم أخلاقية وسلوكية لأهله وذويه والمقربين اليه .
المشهد ينحدر واقعا
ان حجم الأنا والنرجسية والابتذال في حياة بعض الشعراء لم تكن يوما إلا وسيلة للصعود سريعا إلى منصة الشعر والاماكن التي تطمح إليها تلك الأنا المتعالية حد البطش بالمنافسين وكل ما يمت به من صلة ، فإن منظر محاربة شاعر آخر أو اسقاطه في أي هوّة قريبة أو بعيدة عن المنصة يصبح أمرا مألوفا ، تراه في كل ملتقى ومهرجان وأمسية من خلال همس اللؤماء والحاسدين والمترصين المغرضين من الحضور وما يعقبها من طروحات فارغة لا تستند لأية حجّة أو منهج ولا يراد منها سوى التباهي وقذف الآخر والاضرار به ، وإن أغلب هذه الهجمات الشرسة تتخذ أغلب الأحيان شكلا جماعيا ـ يكاد يكون عصائبيا ممنهجا أو لوبيا ـ لتعطي شرعية لطرح ما يقال ولتعكس وجه التآمر الخفي حول فلان أو علّان من الشعراء المبدعين بتدبير مسبق أو دون تدبير ، فالعقل الجمعي المنحرف في هذه الاوساط كما يصفه علماء النفس والاجتماع سريع التاثر والاستجابة ولا سيما عند ادنى احساس بالخطر أو عند اقتراب مغنم ما أو مصلحة مشتركة متبادلة المنفعة . وأن أقرب ما يقال عن هؤلاء أنهم الغاوون ، فذلك غيّ وهناك من أوقعهم بتلك الغواية ، ان هو إلّا شيطان مريد ، يتلبس من تملكه الهوى وجشع الأنا التي تفتك بكل القيم والثوابت الأخلاقية الفاضلة ، قد لا تصدقون ما أقول ، فترى من رأى الشيطان وهو يدخل محافلنا الادبية وامسياتنا الشعرية ليرى كل من يهوي الى قاع تلك الظلمة المخزية ؟

لوبيات التصفيق وشبكات التشويش
ومما لا شك فيه ان من كشف عنه الحجاب استطاع أن يرى سقط متاع الحفلات الوثنية وهوام موائد الشر التي كان يقيمها العفالقة والصداميون وأشباههم اليوم وهم يقفون مع الكورال والجوقة التي كانت تنفخ بالعجل إله السكارى والضالين والمتزلفين واللوبيين ، لحد انمساخهم الى ألسنة للّعق والفحيح ، وهم ينسلون بيننا وبين هؤلاء وهؤلاء وبين أولئك وأولئك ، تارة يجمعون وأخرى يفرّقون ، يجعلون من أنفسهم محورا ودالة بأي شكل من الأشكال ليستطيعوا النفاذ بقوة وبسرعة ، فتراهم متواجدين في كل مكان ومناسبة وغير مناسبة معا ، للتأثير بأكبر عدد ممكن ممن يتعلق بهم المشهد والقرار ، بعد مدّ شبكة من العلاقات لها كل الوجوه الا الفضيلة والانصاف ، لتشكيل جيوش وعصابات بألوان وأشكال جذّابة لتكون مستعدة للانقضاض بوحشية على أي خصم أو صديق اذا اقتضى الامر والمصلحة ، مع الاستفادة من أي خلاف أو تنافس شريف قد يحصل بين الاخوة لاستثماره لخلق جو من البغضاء والفرقة بينهم لتطول وصايته ولعزل كل من فهم اللعبة قبل أن يصل لمرحلة التصدي ، فتلك عصاه وهو يهش بها وحذار من الخروج عن طاعة العصا فلسيد الغاوين مخالبا تنبح كالكلاب .

وأد المرأة إبداعيا
لعل من أشق طرق السير في مجال الإبداع في مجتمعاتنا ، هو طريق المرأة المبدعة ، ولا سيما في مجتمعاتنا المحافظة ، وذلك لعدم تبني المرأة كمشروع للابداع ، اذ تفتقر المجتمعات المسلمة والمتخلفة غالبا الى وجود بنى تحتية للثقافة والآداب وللعلوم كذلك ، بقصدية واضحة من الحكومات المتسلطة والجائرة ، وعلى محدودية تلك الأماكن للرجل ، في كل مراحله العمرية ، وعلى قلة تلك المنافذ لحضور المرأة ، نجد ان تواجد النزر اليسير منهن في تلك المنتديات أو الأماكن المتخصصة لتبني أي مجال إبداعي ، يضع المرأة في حرج كبير ومخالفة عرفية قد لا تحمد عقباها في مجتمعاتنا ، لا لخلل في سلوك المرأة ، بل بسبب النظرة الضيقة والمتخلفة للمجتمع أولا ، وللممارسات والتصرفات السلوكية المنحرفة التي يزاولها بعض المحسوبين على الأدب والثقافة ، والتي ترى المرأة المتواجدة في هذه الأماكن هدفا رخيصا تبرره وسائل وغايات بعض المنحرفين الذين يرون العلاقة غير الشرعية والمحرمة شكلا من أشكال السلوك المدني المتفتح ، تأثرا بثقافة الغرب والأفكار الضالة عن نور الله تعالى ، وقد ساؤوا بذلك سبيلا ومنهجا ، وهو عبء يضاف الى الأعباء التي ذكرتها آنفا ، مما يضع الإبداع في زاوية ضيقة ، وامتحان عسير ، قد لا يتمخض عن ضوء ذلك الإبداع ، إلا حين مفارقة المبدع حلبة هذا الوسط الموبوء بالأنانية والتنافس غير النزيه والتسلق المحموم على أكتاف الإبداع

نشرت في الولاية العدد 104

مقالات ذات صله