مفاهيم وحقائق قرآنية الاسراف والتبذير

الشيخ كاظم الصالحي

قال الراغب في مفرداته: السرف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الانسان وان كان في الانفاق اشهر ويقال تارة بالقدر وتارة بالكيفية وجاء في الصحاح للجوهري (السرف ضد القصد.. والاسراف في النفقة التبذير) وفي لسان العراب: (..واسرف في الكلام وفي القتل: افرط) وأما التبذير فيعني التفريق واصله القاء البذر وطرحه فاستعير لكل مضيع لماله، وقال الطبرسي في مجمع البيان: (التبذير التفريق والاسراف) وروي ما جاء في تفسير العياشي من رواية عن الامام الصادق عليه السلام: (من انفق شيئا في غير طاعة الله فهو مبذر ومن انفقه في سبيل الله فهو مقتصد) وروى الاصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام: للمسرف ثلاث علامات: يأكل ما ليس له ويشتري ما ليس له ويلبس ما ليس له) اي يأكل ويشتري ويلبس ما لا يليق بحاله.

تحريم الاسراف والتبذير:
الاسراف من المحرمات والذنوب الكبيرة التي نصت عليها الايات القرآنية والاحاديث الشريف، كقوله تعالى: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) والنهي ظاهر في الحرمة كما تسالم عليه علماء اصول الفقه وتأكدت الحرمة بنفي المحبة الالهية للمسرفين وقوله عز وجل: (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وقوله سبحانه (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ).
وهكذا التبذير حيث قال تعالى: (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)
وفي رواية الرقمي عن الامام الصادق عليه السلام: (ان القصد امر يحبه الله وان السرف امر يبعضه الله حتى طرحك النواة فانها تصلح لشيء وحتى صبك فضل شرابك) وفي رواية عامر بن جزاعة عن ابي عبد الله عليه السلام انه قال لرجل: (اتق الله ولا تسرف ولا تغتر ولكن بين ذلك قواما، ان التبذير من الاسراف، قال تعالى: (ولا تبذروا تبذيرا)
وقال الشيخ احمد النراقي رحمه الله في رسالة له عن الاسراف: ان النهي الصريح الوارد في الآيات وفي بعض الأخبار والتصريح ببغضه سبحانه في بعض آخر، وعده من الكبائر وهذا يدلّ على حرمته.
وجاء في استفتاءات سماحة السيد السيستاني دام ظله: (يقصد بالاسراف صرف المال زيادة على ما يبقى والاسراف حرام.. الاسراف والتبذير سلوكان ذمهما الله سبحانه وتعالى.. وقد كتب الامام علي عليه السلام كتابا لزياد في ذم الاسراف وجاء فيه (فدع الاسراف مقتصدا واذكر في اليوم غدا، وامسك عن المال بقصد ضرورتك وقدم الفضل ليوم حاجتك..) وعنه عليه السلام ايضا: (ان الله اذا اراد بعبد خيرا الهمه الاقتصاد وحسن التدبير وجنبه سوء التدبير والاسراف) وورد في الحديث النبوي الشريف (ما من نفقة احب إلى الله عز وجل من نفقة قصد ويبغض الاسراف في الحج والعمرة) والمقصود طبعا هو اكثار النفقة وبسط اليد في الحج والعمرة ولا تضييع المال وافساده.

ما هو حد الاسراف؟
تعتبر الحالة الوسطية والاعتدال هي الحد الذي يتحقق الاسراف يتجاوزه وهي حالة بين التضييق والاسراف ويشير اليها قوله تعالى في وصف عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) والقوام يعني العدل (الوسط) وفي قوله تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) دلالة على ان حالة الوسط هو الحد للاسراف الذي نهى التدفق عن طرفيه وبقي الوسط.
والعُرف هو الذي يحدد ذلك قال الشيخ النراقي رحمه الله: (وهو صرف المال في القدر المحتاج اليه او اللائق بحال الشخص فيختلف حسب احوال الناس من القدرة المالية والموقع الاجتماعي) وقال (ان الاسراف هو تضييع المال او صرفه فيما لا يليق بحاله اي لا يترتب عليه فائدة دينية او دنيوية او فيما لا يحتاج اليه اي لا يكون محتاجا الى تلك الفائدة).
وهناك ثلاث ملاكات توضح حد الاسراف هي:
1- المعاصي فانها حدود الله والتعدي عليها وان لم يصحبه انفاق فهو اسراف.
2- كل ما حكم العقل بقبح صرف المال فيه كالانفاق على من لا يستحق او اتلاف المال او انفاقه في موارد تافهة
3- العرف الاجتماعي فانه يحدد ميزان الانفاق على الاهل وغيرهم حسب الظروف الاقتصادية.

أنواع الاسراف والتبذير:
يكون استقصاء حالات الاسراف في صور ثلاث اقتصادية واخلاقية وعقائدية:
اما الصور الاقتصادية فكثيرة تتمثل في انفاق الاموال واستهلاك الثروات والطاقات فوق الحد الذي تم تبيانه سواء على صعيد الحكومات حيث نلاحظ الكثير من سياساتها المالية وبرامجها ومشاريعها الاقتصادية مشوبة بالاسراف والتبذير او تكون فاشلة ولا يؤخذ فيها مصالح الشعب والبلاد بنظر الاعتبار او لا تعود بالفائدة المرجوة او على صعيد الافراد والمجتمعات ويشمل صورا متعددة منها: اتلاف ما ينفع الانسان والمجتمع وعدم الانتفاع برأس المال والانفاق بنحو لا يتناسب مع شأن المنفق ومنزلته، وكذلك اقتناء مواد وسلع كمالية غير ضرورية، وعدم الاقتصاد وتبذير الاموال والامكانات الاقتصادية، وهكذا الانفاق دون رعاية الحد الطبيعي والحاجة كالافراط في تناول الاطعمة والتسوق او الانفاق على المعاصي والملذات المحرمة او تضييع الاموال في اللهو واللعب والمجالس التي لا تعود بالفائدة على اصحابها وغيرها من الصور والحالات التي ابتليت بها الشعوب في الازمنة الاخيرة سيما بعد التطور الهائل الحاصل في مجالات الحياة كافة وتيسّر الوصول الى معادن الارض واستهلاكها خاصة ثروة النفط التي انعم الله بها على العالم الاسلامي ولكن المؤسف انها تذهب هدرا وتُصرف على استيراد الاسلحة والمعدات الحربية او السلع الاستهلاكية التي تحطم الصناعة الوطنية وتعطل الكفاءات الداخلية او تصرفها الحكومات من اجل بقائها على كرسي الحكم على وسائل الاعلام والجهات والاحزاب والاشخاص الذين لا تهمهم سوى مصالحهم الخاصة، ويبقى الشعب في كل هذه الحالات هو المتضرر الاول والمحروم من ثرواته ومقدراته.
أما صور الاسراف الاجتماعي فتتمثل في الخصال الضارة من قبيل الاستبداد والانانية والتكبر والاستغلال والظلم وكل فساد اجتماعي وأشدّها ضراوة القتل والتعدي على حقوق الاخرين، قال تعالى في قصة قابيل وهابيل وبعد نهي بني اسرائيل عن سفك الدماء المحرمة والفساد في الارض: (ثم ان كثيرا منهم بعد ذلك لمسرفون) وقد اوضح المفسرون موارد اجسادهم ومنها تحليل الحرام، والقتل وسفك الدماء، والكفر والشرك، ومخالفة الانبياء عليهم السلام، واتباع الهوى، وارتكاب المعاصي والتعدي على الحق والحقيقة، وفي اية اخرى اعتبر فرعون مسرفا بادعائه الربوبية وارتكابه القتل والجور والعصيان والطغيان، حيث يقول: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) وهكذا الملأ من قوم النبي صالح عليه السلام الذي كان يحذرهم من اتباع المسرفين: (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ).
هذا وقد نهى القرآن الكريم عن الاسراف في القتل الذي كان سائدا ايام الجاهلية في قوله تعالى: (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) وقد سأل اسحق بن عمار الامام ابا الحسن عليه السلام عن هذا الاسراف فقال: (نهى ان يقتل غير قاتله او يمثل بالقاتل) وقد جاء في تفسير الميزان: (ان الناس في الجاهلية كانوا اذا قتل الرجل من القوم رجلا لم يرضوا حتى يقتلوا به رجلا شريفا اذا كان قاتلهم غير شريف لم يقتلوا قاتلهم وقتلوا غيره) وهكذا قتل اكثر من واحد في كل قتل الا ان يشاركوا في القتل وقتل القاتل قبل اصدار الحكم او القتل بعد العفو عنه من قبل ولي الدم.
أما الاسراف في العقائد فتتمثل في جحد وجود الله تعالى واياته والشرك في عبادته وانكار النبوة فقد اعتبر مؤمن ال فرعون جاحد للنبوة مسرفا في قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ).
بقي الاسراف في السلوك الاخلاقي فان له صوراً كثيرة تتمثل في ارتكاب المعاصي والتعلق القلبي بالماديات وقطع الارتباط مع الله عز وجل وبالتالي الانحراف عن طريق الحق والدخول في طريق المسرفين مما يستدعي التوبة والامل بغفران الذنوب لتصحيح المسيرة في الحياة قال تعالى (وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ) ويعدُّ القرآن من يستغيث بالله عند المصيبة والبلاء ويغفل عنه عند الخلاص والرفاه مسرفا يستحسن اعماله القبيحة قال تعالى: (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وهكذا ذم قوم النبي لوط عليه السلام واهلكهم بوصفهم مسرفين وبصورة عامة فان كل سلوك وعمل يتجاوز حد الاعتدال هو اسراف في المنظار القرآني يستوجب الاستغفار وهذا ما جاء في دعاء المؤمنين وانصار الانبياء عليهم السلام (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا).

نشرت في الولاية العدد 105

مقالات ذات صله