شبكات النت .. غواية وتمرد أم تواصل

شاكر القزويني

لا شك ان التطور التكنولوجي دخل الى جوهر الحياة مؤثرا في تفاصيلها وسبلها وملامحها، وعلى الصعيدين المادي والمعنوي، محدثا شكلا جديدا لها تتنازع فيه الايجابيات والسلبيات التي تمخضت عن اسلوب الحياة المستحدث هذا، حتى ارتقى الانسان الى ما كان يحسبه خيالا فيما مضى في مستويات العيش الرغيد والرفاه والتفوق والرقي والقوة، يقابل هذا انحدار هائل في القيم الفاضلة وهدر في موارد الطبيعة وثرواتها وتصاعد هائل في مستويات تلوث البيئة منذر بهلاك الأرض ومن عليها.

ومن مفاصل الحياة التي استحكمت فيها التكنولوجيا حتى أصبحت فيها الأداة أهم وأكبر كلفة من غايتها، هي قنوات التواصل بكل أشكالها وتفرعاتها ووسائلها، والتي يقف الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي بكل صنوفها في المقدمة، وهي تتداخل كل يوم فيما بينها بشكل جديد ومشوق وسهل، في التحام يتعاظم فيه التقارب الانساني الى حدود قد تضيق على الحدود القيمية ولا سيما الشرعية والأخلاقية، بعدما اصبح العالم بعد هذه الثورة التكنولوجية التواصلية والمعلوماتية جميعه في كف الانسان، يقلبه ويتصفحه ويلج فيه حياة الناس وفق ما يشتهي. وبعدما أصبحت هذه الوسائل بهذا المستوى من التأثير والتفاعل الانساني في يسر وتعاظم محموم بالحاجة اليه، هل ستقف أغراض أصحاب السلطة والقوى العظمى وهي تضع في حساباتها الستراتيجية، صراع حضارات قائم وحتمي، وليس من دالة على أهمية هذا الا بالنظر الى ما آلت اليه صناعات الدولة العظمى المهيمنة والتي تحولت فيها الى الصناعات المعلوماتية والتواصلية لتحقق هيمنتها وفق متغيرات العالم وما آلت اليه الحاجات الانسانية من تطور وتغييرات.

حاجة انسانية تسعى للتسلط
وحول أهمية هذه الحاجة الاجتماعية المتنامية يرى الاعلامي السيد مسلم القزويني: ان تطور وسائل التواصل الاجتماعي هي من جعلت من العالم قرية صغيرة، فجعلت حياة الانسان ترى بكل دقة وبكل التفاصيل المجهرية، حتى باتت وسائل الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي الموجودة في الهاتف الخلوي الشخصي حاكم متسلط على مجريات حياتنا اليومية وما تحمل من أمور شخصية وعامة، ثقافية وسياسية واجتماعية.. الخ من تفاصيل تكوّن مجمل الحياة، قد تتعدى في مديات تأثيرها الى تغيير أنظمة سياسية أو تغيير مسارها ومنهجها لقدرتها في التواصل التفاعلي المحشِّد والمكوِّن للرأي الجماهيري العام، بعدما كان هذا التأثير يقتصر سابقا على التلفاز والمذياع، واللذان لم يكونا يتعديان القناة والموجة الواحدة في كل بلد وبقبضة الدولة غالبا.
ويجد القزويني في مسألة أثر شبكة النت على المنظومة القيمية للمجتمعات انها: قد تنقلب وسائل التواصل الاجتماعي والمعرفي الى ما لا يحمد عقباه، وذلك حسب الجهة التي تستخدم هذه المنظومة الحساسة والمؤثرة والمهمة، وذلك بسبب ما تقوم به من تقريب وتواصل بين الأشخاص، وقد تتفاقم الأضرار والمؤثرات في العلاقة بين الجنسين الذكر والأنثى، بما قد يثيره ذلك التقارب من رغبات وغرائز شيطانية، تمتد آثارها الى الأسرة، مفككة بنيانها ومزعزعة لأواصر الثقة والعلاقة الأسرية، فضلا عن تقلص الفترات الزمنية التي يقضيها الفرد داخل عائلته في جوها الأسري المطلوب، تلك الفترات التي تنبني خلالها أواصر التفاهم والمودة والخلق الذي تنشأ عليه حسب طبيعة ذلك المجتمع.

وجها العملة داخل السوق
وعن الاستخدامات المشبوهة في بعض مواقع التواصل الاجتماعي أشار الدكتور أحمد السلطاني الاستاذ في كلية التربية، قائلا: مما لاشك فيه ان هذا التطور في وسائل الاتصال له بعد ايجابيا أصبح ضروريا في حياتنا المعاصرة، بل لا يمكن الاستغناء عنه، فبعد سنوات من التفكك أو الهم العائلي الذي اصاب العالم لسنوات خلت، وبالخصوص حينما يغترب أو يسافر فرد من أسرة ما أو عائلة بكاملها، أصبح الآن من اليسير جدا التواجد مع الأسرة الأم لقضاء ساعات في مشاركتها أفراحها وأتراحها او الاطمئنان على أحوالها، فضلا عن قدرة الفرد على استحصال أي معلومة أو خبر بضغطة على مفتاح الكيبورد، لكن هناك دوما من يتصيد بالماء العكر، محاولا الانتفاع من كل حركة بالمجتمعات أو الأفراد لتصبح وسيلته بالكسب، وسوقا يروج به بضاعته، وقد تكون بالطرق غير المشروعة، الشيطانية والعدوانية، فنشأت عبر هذه الشبكة العنكبوتية مواقع لبث الرذيلة أو لبيع العلاقات المحرمة، مستغلة غرائز الانسان وضعفه، واندفاع الشباب غير المحسوب أو المتعقل، وباستخدام وسائل الإغراء والترويج الفاضح لإيقاعهم بفخ الانحطاط والعبث والخسارات المتلاحقة، كهاوية تسقط فيها روح الانسان وأمواله ومستقبله الى غير رجعة.
وعن استشراء هذه الآفة بين مستخدمي وسائل الاتصال في مجتمعاتنا وأهم أسبابها أوضح السلطاني: هناك ظروف موضوعية في مجتمعاتنا الشرقية ولا سيما المسلمة تجعل مستخدمي وسائل الاتصال يقعون في حبائل هذا السلوك غير السوي أولها حالة الكبت الجنسي والانغلاق أو الانكفاء عن العلاقات بين الجنسين بسب عدم تهيئة ظروف صحية في العلاقة التي غلبها العرف الاجتماعي في وقت يتراجع فيه السلوك والمنهج الشرعي الاسلامي الذي ضمن مستوى عالٍ من الاخلاق والفضيلة عبر تعاليمه السمحة في الزواج وشروطه، فضلا عن ممارساته التي تضع العلاقة بين الجنسين في أمان العفة من الانحراف، وثانيا هو التأثر بالإعلام الموجه من، الغرب وأتباعه في الشرق، عبر وسائله الترفيهية في قنواته الفضائية ومواقع اتصالاته الترويجية المثيرة للغرائز الحيوانية، ووفق منهج مدروس لإشغال وإلهاء الفكر العربي والاسلامي ولا سيما شبابه الذين لم تتضح عندهم الرؤية بعد في معنى الحياة والوجود ومسؤولياتها تجاه خالقها ومجتمعها.

الفخـَّين الأهم
وعن هذه الثقافة الدخيلة وأشكالها وما يتبعها من سلوك ضال تحدث الدكتور نبيل حميد الساعاتي/ جامعة بابل، موضحا: في واقع الأمر ان دخول مجتمعنا في هذه التجربة الغريبة بشكل مفاجئ بعد تغير النظام السياسي في العراق ودخول العراق في حرية هي أقرب منها للفوضى، أحدث ارباكا في النفسية وعدم وضوح بالرؤية بسبب عدم تهيؤ المجتمع ثقافيا لهذا الانفتاح وهذا الحجم من العلاقات وزخم الأفكار والمواضيع والمؤثرات فضلا عن تنوعها، حتى بدت وكأنها تسقط شلالا من المؤثرات النفسية والثقافية بكل اتجاهاتها على رؤوس أي عقول المنخرطين في هذا العالم المتشابك والمعقد والمتناقض أحيانا، لهذا كان حجم التأثير قويا جارفا وبالخصوص حينما يتناغم مع الحاجات الانسانية الملحة، أو حينما يعزف على نغم الأزمات والخسارات التي يتعرض لها المجتمع، لدرجة قد تسبب احباطا وتخلخلا في ارادة الجماهير بالإصلاح والتغيير. وأجد

ان هناك شكلين رئيسيين هما الأخطر في احداث الآثار السلبية بالمجتمع، أولهما التضليل الثقافي والعقائدي الذي يستهدف القيم الفاضلة والدين ورموزه، والثاني فن الغواية عبر الاثارة الجنسية وفتح جسور للتواصل باتجاه هذه العلاقات المحرمة والفاسدة عبر العديد من الطرق والوسائل المشوقة والمثيرة للغرائز، والتي أخذت تنخر المجتمع من داخله وبشكل تدريجي لتخريبه وإسقاطه، هذين الخطرين الكبيرين اللذين يمكن أن يكون منشأهما واحدا، بل وان ومن جملة الوسائل الخبيثة لهذين الشكلين، ان أحدهم قد يستخدم الآخر للإيقاع بفريسته (كما فعل داعش الارهابي في تجنيد أعوانه عبر جهاد النكاح المزعوم وغيره من الوسائل)، ولا نستغرب لو رأينا مثل هذه المواقع كيف تتطفل على أسماء المدن المقدسة في محاولة لاختراق مجتمعها المحافظ، ومن أهم وسائلها انها تعتاش على أزمات المجتمع، مستهدفة مناطقه الضعيفة والمأزومة كالأرامل والمطلقات والأيتام فضلا عن غير المحصنين بالقدر الكافي بالدين والخلق النبيل، ذلك الجزء الهش والمنكسر والمستضعف والمحتاج في المجتمع مستغلين محروميته من العطف والحنو الأبوي والكثير من الحاجات الانسانية الضرورية والملحة.

فرض الهيمنة والنفوذ
الباحث في العلوم السياسية الأستاذ هاشم الباججي القى برؤيته في هذا الموضوع الى مديات أبعد وشمولية حيث صراع القوى العظمى وفرض الهيمنة على بلدان الأرض وشعوبها، قائلا : يشهد العالم اليوم ثورة بالاتصالات والمعلومات حتى بات كل حدث فيه يؤثر على بقية أجزائه بل ان هذه الثورة المعلوماتية وشبكة الاتصالات ووسائلها لها الدور الكبير في التأثير على نواة المجتمع وهي الاسرة، لذا كان للسياسة دور كبير في هذا المضمار فاستغلته أفضل استغلال تبعا لمصالحها لاسيما القوى العظمى، فعمدت الى استعمال هذه القوة الناعمة في السيطرة على الشعوب ومقدراتها بدلا من القوة العسكرية والاحتلال او كما يسمونها القوة الصلبة، فإحدى وسائل القوة الناعمة للدول الكبرى هي شبكة الاتصال العنكبوتية ووسائل الاتصال الاجتماعي للتأثير على أفكار المجتمع ولاسيما الشباب، لذا نرى الآلاف من المواقع الالكترونية التي تحوي الكثير من الافكار المنحرفة والفاسدة والشهوانية والتي تقدّم بصورة حداثوية، لذا اضحت مصطلحات الانفتاح والتحرر بدل الكبت والانغلاق، والالحاد بدل الايمان، والتشكيك بكل ما هو مقدس بدل العقائد.
وتأتي قدرة شبكة الإنترنت كونها تتيح للناس بأدنى التكاليف نشر أي موضوعات أو مواد يمكن رؤيتها في كل أرجاء العالم وبأقصى سرعة وانتشار، ومن الامثلة الحية على ذلك فوز اوباما بالانتخابات الامريكية بواسطة توظيفه الجيد لتكنولوجيا المعلومات وعلى رأسها شبكة الإنترنت إذ أسفرت النتائج عن فوزه بأصوات 67% من الشباب تحت سن الثلاثين الذين تأثروا من خلال الانترنت، والكل يعلم ما لدور هذه الشبكات من تأثير في احداث ما يسمى بالربيع العربي.

مواجهة الخطر المتنامي
وعن الخطر المتنامي لضلالة الفكر والعقائد يتفق الباججي مع د. نبيل الساعاتي حين يشير الى» ان شبكة الانترنت سلاح ذو حدين فقد كانت الشهوات – التي تدعو إليها أغلب القنوات الفضائية – هي الخطرَ الأعظم الذي يواجهه الشبابُ، لكن موجة أخطر ظهرت وهي موجة الانحراف الفكري، والخلل العقدي، والتي أصبحت اليوم المسيطرة على عقول الشباب بشكل كبير بسبب القنوات الفضائية، ومنتديات الإنترنت، والمواقع الالكترونية، لذا استخدمت القوى الكبرى الحرب الناعمة وهي حرب عقائدية وفكرية، لتستقطب من خلالها كافة القدرات والعقليات؛ لزعزعة الثوابت العقائدية، وخلخلة الأمن الفكري عند الشباب، وأن تلك الحرب نجحت نجاحًا كبيرًا في التسلل إلى شريحة واسعة من شبابنا، وقد كان للقنوات الفضائية ومنتديات الإنترنت الدور الرئيس في إفساد عقول الشباب، ودعوتهم للتمرد، فلابد من العمل من قبل الدولة للسيطرة الالكترونية والمراقبة الشاملة لهذه المواقع وتنقيتها وحضر الفاسد والمنحرف منها.

إجراءات وحلول
يختصر رئيس جامعة واسط الدكتور عبد الرزاق احمد النصيري نصيحته للحد من هذه الظاهرة الخطيرة بقوله: لقد أضحت ثقافة الفيس بوك واليوتيوب هي المسيطرة على الناس وخاصة الطلبة وأصبحت هناك الجاهلية الالكترونية، وأنا احذر منها، واتمنى من المتصدين في الحوزات الدينية ومؤسساتها الدينية في العتبات من التدخل والتأثير على المسؤولين الحكوميين كما في باقي الدول للسيطرة على الفيس والانترنت، بعدما أصبح الأمر يشكل تهديدا للمجتمع برمته.
ويجد الاعلامي والتربوي حسام الكوفي ضرورة الوقوف بحزم ازاء فوضى قد تضيّع كل خير بوسائل التواصل هذه من خلال: اليوم المواقع تحتاج الى تدخل خاص من الدولة، اذا ان كل شيء مشاع في وقت نجد فيه ان اقرب الدول القريبة من العراق تسيطر على مواقع التواصل الاجتماعي او حتى المواقع الاخرى وبالتالي نقضي على الفوضى لنحافظ على مجتمعنا وبيأته الاخلاقية والدينية، فمن غير المقبول ان تتاح المواقع الاباحية لأي شخص بكل يسر، وحتى المواقع الخاصة باليوتيوب كافلام كارتون تجدها مخترقة بأفلام لا اخلاقية وممكن ان تفسد اخلاق اطفالنا، بالتالي اليوم من الواجب ان يكون هناك تدخل خاص من الدولة التي لها السلطة الحقيقة على كل هذه المؤسسات بما فيها مواقع التواصل الاجتماعي والانترنت وغيرها من البرامج لأنها صاحبة اليد الطولى في هذا الموضوع وبدونها لن نستطيع الحد من هذا الامر، ونحن لا ننكر ان لمواقع التواصل الاجتماعي والانترنت فائدة جمة حقيقية لا تعد ولا تحصى ولكن يجب ان تكون ضمن حدود معينة وضمن افاق معينة تحددها الدولة.
فيما يسترسل الخطيب الشيخ بدري البدري في ابداء نصائحه وتوجيهاته للحد من آثار هذه الظاهرة الحادة الأثر في المجتمع مؤكدا: بلا شك أن لمواقع التواصل الاجتماعي فوائد كثيرة فالتواصل بحد ذاته له آثار إيجابية بالتعارف بين المجتمعات والأفراد وهو أصل قرآني اذ قال تعالى في الآية (13) من سورة الحجرات: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وبلا أدنى شك أن بعض التواصل مضر والكلام فيما يكون عن سبيل برامج التواصل الألكترونية والتي أصبحت كثيرة ولها مسميات عدة فكل برنامج هو عالم بحد ذاته فيه الطيب والبار وفيه الخبيث والضار، والمهم بل الأهم في ذلك كيفية استخدام بعض البرامج كالفيسبوك وغيرها ثم التواصل والتعارف مع الخيرين من الناس والنافعين منهم وتبادل الأفكار ونشر الفضيلة على صفحات التواصل، وحجب الأشخاص المضرين اجتماعيا ودينيا وسلوكيا وفكريا وغير ذلك وترك البرامج المشينة والمشبوهة والمفسدين ممن يشترك بتلك البرامج، وذلك يحتاج إلى أمور أهمها، السعي الحثيث لنشر الوعي بين الناس بأهمية بث الفضيلة وترك الرذيلة وإن الخصلتين موجودتان في مواقع التواصل وكل منها لها أهلها ودعاتها، ومراقبة المرء نفسه على الدوام في أن ما يسمعه ويراه في مواقع الاتصال نافع لنفسه ولمجتمعه أو ضار لهما، ولابد من متابعة الآباء أبنائهم من الأطفال والمراهقين والمراهقات الذين لا يدركون مصالحهم ولا يميزونها من الأضرار التي من الممكن أن تلحقهم من خلال برامج وأصدقاء السوء على حد سواء، كما يجب على الخطباء والكتّاب والمثقفين أن يعملوا بتكليفهم في هذا المجال عن طريق المحاضرات ونشر المقالات والكتابات المتعلقة في ما ينفع ويضر من مواقع الاتصال، وتأثيرها على سلوك الفرد والمجتمع إذا استخدمت في غير طرق المنفعة والفضيلة.

نشرت في الولاية العدد 105

مقالات ذات صله