البناء الحضاري وأدواته الإبداعية المتفوقة

أ‌. رضاء صاحب الحكيم/جامعة الكوفة

ان دفع عجلة العلم والأدب والثقافة في اطارها الحضاري الى أمام ليست هي مهمة أو غاية المختصين في هذا المجال الإبداعي وحدهم، وليست مسؤولية تقتصر على المؤسسات التربوية والعلمية البحثية والأكاديمية، وان كانت تقف في صميم هذا المرجل أو المولد للطاقة الفكرية والحسية التي تنتاب المجتمع وتحقق حاجاته الذهنية والحسية، معطية بذلك طاقة الوجود المادي والمعنوي في شكله الحضاري أبعاده الزمانية والمكانية، أي ماهيته في أمة لها ملامحها وتاريخها ومساحتها الفاعلة في الوجود الانساني، قادرة على اتخاذ حيز مؤثر في الخلق والإبداع، عبر إعطاء اجابات وحلول لتداعيات الحياة فضلا عن رسم الخطى الواثقة في سبل التطور والارتقاء والرفاه للحصول على مستوى من السعادة الانسانية داخل نظم استطاعت ان تؤسس لها حضارات ولدت لتستمر محققة غايات الخلق الرباني حينما أوجد الانسان وجعله على الأرض .

مرتكزات المشروع الحضاري
فالتقدم العلمي وضمن مشروع حضاري يضع الأمم والحضارات أمام سباق وحوار بل وصراع حضاري يقتضي استحضار كل مقدرات الأمة وإمكاناتها للحصول على موطئ قدم على ناصية هذا الوجود الفاعل، والمتحكم بمقدرات الشعوب من خلال التفوق الذي يضع قوانينه التي ترسّخ التمايز بين الدول، المتقدمة والمتخلفة، دول العالم الأول أو الثالث، دول مستكبرة وأخرى مقهورة، وفي خضم هذا السباق الماراثوني الطويل، والمصيري، يقف العلم والأدب والثقافة والفنون كحجر زاوية يحدد معيارية الحسم في هذا التنافس العالمي، الذي قد تنتابه الضرورات الى التمرّد على القيم الأخلاقية والقانونية السائدة ـ حسب منطلقات وأماكن انبثاقها ـ فتتصاعد حمى التفوق ووسائلها المبتكرة الى ما يفوق الخيال. هذه المشاريع الحضارية هي مرتكزات بناء الدول التي تضع اطرها التشريعية والقانونية وأعرافها ولوائحها في حدود هذه الرؤية الحضارية، لا الحاجات ومتطلبات البناء المادي فحسب، فالحضارة تعيش وتنمو فقط اذا ما توفرت البنى التحتية اللازمة والضرورية لها، لتتشكل البنى الفوقية التي تحدد معجل المسار والتفوق، وهو مسار تتوافق فيه العلوم الانسانية مع العلوم الصرفة دون اغتراب مع بنية وثقافة المجتمع وقيمه الراسخة في الوجدان كالدين والأخلاق والموروث التقليدي، ولن يتحقق هذا البناء دون اعطاء مجال للجانب الابداعي حيزه كاملا في الرعاية والاهتمام ليحقق غايته في الخلق الناجز ابداعا وحضورا انسانيا يستطيع ان يعطي اجابات شافية في غير مجالات الوعي والحسابات المنطقية التي تتوقف فيها الاجابات وتستعصي فيها الحلول.
تساؤلات تداعيات الواقع
واذا ما أدرنا دفة التقصي والدراسة نحو واقعنا وما آلت اليه أحوالنا، لا بد ان تتبادر الى اذهاننا تساؤلات عدة.. هل ان الجهل والتخلف والفساد والقهر من سمات مجتمعاتنا وأقدارها الإلهية ؟ وهل ان روح الخنوع والاستكانة والكسل التي تتبرعم ليل نهار ومن كل الجهات في أرواحنا رغم كل عوامل العلو والتفوق التي منَّ الله بها علينا هي مورثات طبيعية فينا، أم انها صنائع قوى أخرى استطاعت ان تمد يدها الى كروموسومات مجتمعاتنا لتنتج أجيالا مشوهة عاجزة عن ابداع أي منهج حضاري يحقق السبق في مضمار الأمم المتلاحقة في ارتقائها ـ كما يحدث في أمتنا العربية منذ عدة قرون خلت ـ تساؤلات تحتاج الى إجابات، وأجوبة تحتاج الى معرفة المسببات المنطقية وغير المنطقية في حدوثها واستمرارها؟ ومتى سنبدأ بالخطوة الصحيحة ومن أي منطلق سنشعل شمعة في عوالمنا المظلمة التي تستحق اللعن.
اغتراب المبدع داخل وطنه
ان اغتراب المبدعين علماء وأدباء ومفكرين ومثقفين داخل وخارج أوطانهم هي السمة الغالبة والعقبة الكؤود لتجاوز محنة نكوص أمة وانكسارها وفقدان هويتها واحتضار روحها، حينها وفي هذا الاغتراب والنأي عن الوطن ـ ماديا أو حسيا أو موضوعيا ـ تصبح الخطى متهالكة لبناء أي شيء، فكل حركة وقرار خاوية من الفهم والعقلانية بل خاوية من الروح، روح ذلك المجتمع التي تستطيع فهم غاياته الانسانية المطلوبة وقناعاته المرجوة من الشرائع واللوائح والقوانين وقواه النابضة بالحياة، صاحبة القدرة الخارقة والضرورية على تفسير كل التساؤلات الغيبية والمنطقية، والقادرة على فض التخندقات وتشابك المصالح والغايات، فهي البوصلة الموجهة الى الحاجات الأساسية والأولويات والضرورات الملحة للبقاء والنمو والتفوق.
الدول عظمى بصفوتها
لذلك كانت الدول العظمى تضع هؤلاء الصفوة في أماكنهم التي يستطيعون فيها الارتقاء بمستوى النتاج الابداعي والعلمي، ليس على مستوى المؤسسات التي ترتكز عليها نشاطاتهم أو مراكز البحوث التي يستطيعون فيها العمل وتطوير الرؤية والبحث الى أقصى ما يمكن أن يكون، بل يتعدى ذلك الى تأمين مستوى عيش لائق لهؤلاء المبدعين والعلماء والمفكرين وأسرهم، لأن التجربة الانسانية الحضارية أثبتت مرارا وتكرارا أهميتهم وضرورة استثمار وجودهم الثمين لبناء أمة عظيمة لها حضورها وأهميتها بين الأمم.
الإبداع قرين الرفاهية والاهتمام
ان الأمم لتفخر بمبدعيها ومفكريها فتضع لهم النصب وتطلق أسماءهم على صروح المعرفة والثقافة والعمران، وتكون أسماء المهرجانات والندوات والمؤتمرات بل وحتى المشاريع العلمية والفنية والثقافية مطبوعة بأسمائهم، تكون سيرهم وتجربتهم الإبداعية في مناهج البحث والتدريس محفوفة بالتكريم والاحتفاء والتحليل العلمي والنقدي لتكون منار ضوء للأجيال يستقون منها عبير الجمال ورصانة الوعي وصدق الموقف وقوته والقدرة على مواصلة طريق الإبداع رغم كل الظروف والمحن.ان النتاج الانساني والعلمي الذي وصل الينا فأضاء لنا الدنيا وان كان في ظروف مريرة وصعبة مر بها أغلب هؤلاء العباقرة والمبدعين في أزمانهم، الا ان هذا ليس مبررا أو دعوة عند البعض تطلق عن قصد في البلدان المتخلفة لتبقى تحت نير جهلها وضعفها، مفادها ان العمل العبقري والمبدع لا يكون الا من مخاض العسر والفاقة والألم، وهي دعوة باطلة، اذا ما نظرنا الى حجم التطور الهائل في أوجه الحضارة لدى الأمم المتقدمة، وعبر برامجها لاستقطاب أهل العلم والمعرفة والإبداع واحتضانهم ورعايتهم رعاية خاصة للعبور بهم وبعقولهم ومشاعرهم المرهفة الاحساس الى جادة التفوق والسمو، سيما وان بعض برامج الرعاية تلك تصل الى مستوى يقرب الى الخيال في الرفاه والتكريم اذا ما قيس بواقع هؤلاء النخب في بلداننا التي تذيقهم الأمرين من ظروف القهر، أمنا وفاقة وحرمانا وحرية وكرامة، فضلا عن بؤس في ظروف يقدمون فيها نتاجاتهم الإبداعية بما يستحقون فيه حفاوة وتقدير الانسانية جمعاء.

نشرت في الولاية العدد 106

مقالات ذات صله