سلطة النصّ بين الدلالة ومستوى الفهم

أ. م. د. عادل عباس النصراوي

يُعدُّ مفهوم السلطة ومفهوم النصّ من المسائل التي اختلف العلماء في تحديدهما, وبيان حدود كل لفظ منهما في دلالته ومعناه, فنظرت كلّ طائفة من الدارسين الى وضع مفهوم خاص بما يتوافق مع نوع الدراسة التي فيها أو عليها.
إنّ النصّ في الدراسات اللغوية يعني البيان الوضوح, وقد جاء في لسان العرب: (النصّ: رفعُك الشيء, نصَّ الحديث ينصّهُ نصّاً, وكل ما ظهر فهو نصّ)( لسان العرب / ابن منظور : 14 / 162 – نصص) , وغيرها مماّ تدلُّ على النصّ, بمعنى الوضوح, وإزالة المعنى وظهوره, ونتلمّس ذلك أيضاً من المعاني الحسية التي توحي الى هذا المعنى أيضاً(ظ : م. ن :14 / 162 – 163 – نَصَصَ), فالنصّ هو الكلام الواضح الذي لا خفاء فيه أي الذي ظاهره يوحي الى ما في باطنه.(وللمزيد في معرفة النصّ في اللغة راجع : الخطاب والنصّ : د. عبد الواسع الحميري : 48 – 55).
أمّا الأصوليون فقد توسعوا في دلالة النصّ, فهم لا يُريدون منه مجرد اللفظ الدال على معنى, بل يُراد منه – فضلاً عما ذكرناه – سياق التلفّظ(ظ : م ز ن : 42), ولكنهم اختلفوا فيما يدلُّ عليه معنى, إذ جُعل للسياق دورٌ في عملية تنصيص المعنى وبيانه ووضوحه, فلا يتطرّق إليه التأويل والتعدّد في المعنى, ولعلّ الإمام الشافعي (ت 204هـ) هو أول من عرّفه, فقال بعد أن أوضح دلالات بعض النصّوص القرآنية, ووضع النصّ على رأس أنماط البيان في أنّ كلّ (ما استغنى بالتنزيل في هذا خبر غيره)(الرسالة / الشافعي : 118) وأردف د. نصر حامد أبو زيد ذلك ومعرّفاً على ضوء قول الشافعي بأنّه (المستغنى فيه بالتنزيل عن التأويل, وهو الذي لا يُعذر أحدٌ بجهالته)(النصّ والسلطة / د. نصر حامد أبو زيد : 151), وهذا المعنى أكده الإمام الجويني (ت 478هـ) في حديثه عن النصّ حين قال: (اختلفت عبارات الأصحاب في حقيقة النصّ, فقال بعضهم: هو لفظ مفيد لا يتطرق إليه تأويل, وقال بعض المتأخرين: « هو لفظ مفيد, استوى ظاهره وباطنه)(البرهان في أصول الفقه / الجويني : 1 / 277).
غير أنّ بعض المتكلمين اعترض على اشتراط ذكر اللفظ في محاولة تحقيق معنى النصّ مستدلين على أن دلالة الفحوى تقع نصّاً(ظ : الخطاب والنصّ / د. عبد الواسع الحميري : 42), وهذا مما يعمل على تشتيت المعنى لأنّ منهجهم في ذلك التوسّع فيه لضمان تأييد النصّ القرآني لآرائهم ومعتقداتهم.
وكان الأصوليون بفضل قوانينهم الدقيقة قد فصّلوا في الدلالة المستوحاة من النصّ, فلم تعدّ الدلالة واحدة من النصّ, وانما هناك دلالات متعدّدة, أو أنّ طرق التدليل على المعنى من النصّ كانت متعددة باشراك البحث اللساني أو اللغوي, وهي(ظ : كشف الأسرار – شرح المصنف على المنار / حافظ الدين النسفي – 1 / 374)
1-الثابت من الأحكام الشرعية بعبارة النصّ, وهو ما أثبت الحكم بصيغته والسياق.
2-الثابت من الأحكام الشرعية بإشارة النصّ, وهو ما أثبت الحكم بصيغته فقط.
3-الثابت من الأحكام الشرعية بدلالة النصّ فهو ما أثبت الحكم بمقتضى دلالة الصيغة اللغوية.
4-الثابت من الأحكام الشرعية بمقتضى النصّ فهو ما أثبت الحكم بأمر زائد ثبت ضرورة شرعاً.
هذا التفصيل في ثبوت الحكم يدلّ على مدى الاهتمام في الكشف عن الدلالة وتوصيفها الكامنة في النصّ القرآني, ودقة القوانين والتعريفات التي تؤدي الى المضامين المتوخاة, التي ربّما كان ظاهر اللفظ يرمز الى ذلك إلاّ أنهم كانوا يرون أنّ النصّ يمكن أن يُثَوَّر بآليات هم وضعوها لأجل استنفاد كل المعاني التي يكتنفها النصّ المبارك.
أمّا المعاصرون فقد أفادوا تعريفات أخرى, منطلقين من طبيعة المنهج الذي سلكوه في التدليل على النصّ, فهذا رولان بارت يرى النصّ أنّه عبارة عن ممارسة دلالية يعيد للكلام طاقته الحيوية الفاعلة وينهض بها فاعل متعدّد الجوانب, وهذا يقتضي أنّ النصّ إنتاجية مستمرة العطاء, يتفاعل فيها كاتب النصّ مع قارئ النصّ أو متلقيه (ظ : نظرية النصّ في ( التناحية المفهوم والمنظور) / بارت : 38. للمزيد ظ : الخطاب والنصّ / د. عبد الواسع الحميري : 116 – 121), فيما أنّ النصّ عند كرستيفا هو تشغيل ثوري للغة الإبداعية وقدرة إنتاجية هائلة للنص الثقافي(ظ : اتناحية المفهوم والمنظور / كرستيفا : 27).
والنصّ كذلك له آليات خاصة به تمكّنه من الهيمنة ومن إنتاج ممارسات معيّنة تدلّل على سلطته وسيطرته, فالنصّ يتحرك دوماً وينتج سلطةً, فالنصّ والسلطة صنوان لا يفترقان ومرتبطان مع بعضهما قوةً وضعفاً, وهو عبارة عن ممارسة خطابية أو هو عبارة عن عرض لشبكة من علاقات القوى الخاصة بتشكيلة خطابية معيّنة(ظ : المعرفة والسلطة , مدخل لقراءة فوكو / جيل دلوز : 77 , الخطاب والنصّ / د. عبد الواسع الحميري : 189).
إنّ السلطة لها روابط وعلاقات مع غيرها وإلاّ كيف تظهر السلطة الى الوجود إذا كانت في حلًّ من ذلك, وأكدّ فوكو تركيب السلطة – المعرفة الذي يصل الخطاب أو النصّ (دالة السلطة) بنظام العبارة ويربطها ربطاً مفصلياً يستند الى اختلاف طبيعتها(ظ : م. ن : 80), وهذا مما يوحي برمزية سلطة النصّ بمعنى أنها سلطة غير مرئية غير أنّ آثارها واضحة ولا يمكن أن يُمارس إلاّ بتواطؤ أولئك الذين يأتون الاعتراف بأنّهم يخضعون لها أو يمارسونها(ظ : الرمز والسلطة / بيير بوردويو : 52).

نشرت في الولاية العدد 107

مقالات ذات صله