الإستطاعة في الحج بين حكم الشرع وفهم العرف

بدري البدري

لاشك أن الحج ركن من أركان الدين وهو واجب على كل مسلم ومسلمة إذا اجتمعت فيه شرائط الوجوب، ووجوب الحج ثابت في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، قال تعالى :(ولله على الناسِ حجُّ البيتِ من استطاع َ إليه سبيلاً ومن كفرَ فإن اللهَ غنيٌ عنِ العالمين)، وروى الشيخ الكليني عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: من مات ولم يحج حجةَ الإسلام لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحج أو سلطان يمنعه فليمت يهودياً أو نصرانياً.

وما يجب من الحج على المكلف بعد تحقق شرائط الوجوب عليه إنما هو الإتيان به مرة واحدة في العمر فإذا جاء به فقد أتى بحجة الإسلام وبتكليفه الشرعي، وما يأتي به من الحج بعد ذلك فهو مستحب إذا لم يُعنوَن بعنوان ثانوي كحجِّ النيابة أو ما التزم به من نذر أو عهد.
ويصبح المرء مكلفاً بأداء الحج بعد تحقق أمور عدة وهي ما يطلق عليها بشرائط الوجوب، فإذا تحققت الشرائط وجبت المبادرة إلى أدائه، فإذا لم يبادر إليه من دون الوثوق بإتيانه بعد ذلك كان متجرئاً على الله إذا أتى به بعد ذلك وعاصياً ومرتكباً للكبيرة إذا لم يوفق له أصلاً.
ومن شرائط الوجوب البلوغ الشرعي فلا يجب على غير البالغ سن التكليف وهو عند الذكر خمسة عشر سنة هلالية أو غيرها من العلامات التي تدل على بلوغه وعند الأنثى بلوغها تسعة أعوام هلالية، فمن أتى بالحج بعد سن التكليف مع توفر سائر الشرائط فقد أتى بحجة الإسلام ولا يجب عليه الحج ثانياً إذا طال عمره، وأما الصبي المميز وهو المراهق عمره لعمر التكليف فيجوز له أن يأتي بالحج المستحب بإذن الولي، والصبي غير المميز يستحب لوليه أن يحرم به ويأتي بأفعال الحج معه ويأمره بما يتمكن منه وينوب عنه فيما لا يتمكن منه.
ومن هنا نقف على أمر عرفي يتعارض مع الموقف الشرعي عند كثير من الناس الذين تحقق عندهم التكليف بأداء الحج مع بلوغهم السن الشرعي، فراحوا يأخرون أداء الحج سنين عدة بل لا يفكرون بالإتيان به ما داموا في بداية أعمارهم، ويعطون لأنفسهم أعذاراً مختلفة، منها أنهم ما زالوا صغاراً والحياة أمامهم طويلة فإذا عبروا مدة الشباب لعلهم يفكرون بأدائه في مرحلة الكهولة وإن فاتهم ذلك أتوا به في الشيخوخة وهي المدة المناسبة لأداء الحج في نظرهم، وكأن الحج لكبار السن دون غيرهم، والعجيب أيضا ما يقوله بعضهم عن سبب تأخير تأدية الحج: أننا مازلنا في عنفوان الشباب فلنلعب ونلهو بزينة الحياة مازلنا أقوياءَ أشداءَ فإذا ضعفت قوانا وذهبت زهرةُ شبابنا أكملنا مسيرة حياتنا بالحج والتوبة معاً والله يقبلنا ويوفقنا، وذلك المعنى حاصل عندهم بلحاظ ما هو مشهور بين عامة الناس وهو ما يليق برحمة الله أن الحاج حين يرجع من حجِّهِ يرجع كيوم ولدته أمه، كما ورد في رواية ابن أبي الجمهور في (عوالي اللآلئ) في رواية عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُث ولَم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمهُ). (مستدرك الوسائل: ج8، ص41).
وتأخير أداء الحج من الذنوب التي ينبغي للمؤمن أن يتنبه لها ويتجنبها فإن الأمر بأداء الواجبات يبدأ من سن التكليف وهو واحد في العديد من الواجبات كالصلاة والصيام ومنها الحج ولنعلم أن التأخير في أداء الحج إذا وجب وإن كان ذلك
مزامناً للتكليف ذنب يدوم مع صاحبه ما دام لم يبادر في أدائه، وأن حال مؤخر أداء الحج حال البالغ الذي لا يصلي ولا يصوم، وان الجميع مشترك بالذنب من حيث ترك التكليف ومأمورٌ بالتوبة والإتيان بالعمل.

الحج في عنفوان الشباب
وليعلم الأخوة أن الله تعالى يحب من عبده أن يراه حيث أمره ولا يراه حيث نهاه، وأنه يحب الشاب الذي يستعمل قوته ويبذل طاقته ويستهلك مدته في طاعة ربه ورضاه فهو حين يسمع النداء لأداء الصلاة يبادر إليها مسرعاً ولسان حاله لبيك يا رب عبدك بين يديك، وحين يهل هلال شهر رمضان يسرع إلى نية الصيام وتطيعه جوارحه بالإمتناع عن لذائذ الطعام ولسان حال جوارحه كلها تنادي لبيك ربنا وتعاليت، وحين يأتي الأمر بتكليف الحج يبادر الشابُ القويُّ في بُنيته الشديدُ في إرادته إلى أداء واجبات الحج التي تتطلب الطوافَ حول البيت مزاحماً للحجيج قويِّهم وضعيفِهم صَحيحِهم وسَقيمِهم، والمشيَّ السريعَّ (السعيَّ بين الصفا والمروة) وهو في عزم وقوة يفقدها كثير من حجاج البيت، إلى إتمام العمرة وأعمال الحج وما فيه من جهد الوقوف في عرفات من دعاءٍ وتهجدٍ وتوسلٍ في بكاءٍ وصلاةٍ تتطلب جهداً،
والمبيت في مزدلفة ملازم لتعبٍ وعناءٍ إلى منى ونيل المنى فيها من رمي الجمرات وما يلازمه من رمي شياطين النفس والهوى والذبح والحلق وما فيهما من معان عظيمة، مُبتدئا مناسكه كلها بلسان المقال والحال معاً: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك.
فما أحبَّ الإتيان بطاعةِ وعبادةِ الحجِّ حين القوة والشباب وما أجملَ تلك الأصواتِ الفتيةِ وهي تنادي بالتلبية وتلهج بالتوبةِ والطاعة، وما أقرَّ عيونها حين لقائها ملائكة ربها بالبشرى وجائزة المغفرة والرحمة.
وللأخوة الذين يأخرون أداء فريضة الحج لا لعذرٍ فهو ذنب مستمرٌ، من أخبرهم أنهم يعمرون حتى الشيخوخة، بل من أَعلَمَهم أنهم يعيشون حتى الكهولة، ولم التسويف في طلب التوبة والله وعد المغفرة وقبول التوبة.
ومن شرائط وجوب الحج العقل فلا يجب على المجنون إلا إذا كان جنونه أدوارياً ووفَّى دور إفاقته بالإتيان بمناسك الحج ومقدماتها غير الحاصلة، وكان مستطيعاً، فيجب عليه الحج وإن كان مجنوناً في بقية أيام السنة، وإذا علم بمصادفة دور جنونه لأيام الحج دائماً وجبت الإستنابة له حال إفاقته.
ومن الشرائط الحرية، وكذلك الإستطاعة ومنها السعة في الوقت فلا يجب الحج على مَن ملك المال الكافي للحج مع توفر سائر شرائط الحج إذا لم يوجد لديه المقدار الكافي من الوقت للذهاب إلى الأماكن المقدسة والقيام بالأعمال الواجبة فيها.
ومن الأمور المعتبرة في الإستطاعة صحة البدن وقوته: فلو ان لم يقدرـ لمرض أو هرم ـ على قطع المسافة إلى الأماكن المقدسة، أو لم يقدر على البقاء فيها بمقدار أداء أعمالها لشدة الحر مثلاً، أو كان ذلك حرجياً عليه لم يجب عليه الحج مباشرة، ولكن تجب عليه الإستنابة، وهنا مسألة حيوية لا يأتي بتطبيقها كثير من الحجاج العاجزين عن الذهاب إلى الأماكن المقدسة والإتيان بمناسك الحج فيها، فهؤلاء تكليفهم الحج النيابي لا المباشري ومع ذلك يذهبون بأنفسهم فَيَجهَدُونَ ويُعَانُون كثيراً ويكونون عِبئاً على غَيرهم.
ومن الأمور المعتبرة في الإستطاعة تخلية السرب وما يعبر عنه بالإستطاعة السربية وغايتها أن يكون الطريق مفتوحاً ومأموناً، فلا يكون فيه مانع لا يمكن معه من الوصول إلى الأماكن المقدسة، وكذا لا يكون خطراً على النفس أو المال أو
العرض، وإلا لم يجب الحج.
والنفقة من الأمور المعتبرة في الإستطاعة أيضاً، ويُعبّر عنها بالزاد والراحلة، والمراد بالزاد: كل ما يحتاج إليه في سفره من المأكول والمشروب من ضروريات ذلك السفر، والمقصود بالراحلة: الوسيلة النقلية التي يستعان بها على قطع المسافة.
والرجوع إلى الكفاية من الأمور المعتبرة أيضاً في الإستطاعة في الحج، وتعني التمكن بالفعل أو بالقوة من إعاشة نفسه وعائلته بعد الرجوع إذا خرج إلى الحج وصرف ما عنده في نفقته، بحيث لا يحتاج إلى التكفّف ولا يقع في الشدَّة والحرج، وبعبارة أوضح: أن يكون المكلف على حالة لا يخشى معها على نفسه وعائلته من العوز والفقر بسبب الخروج إلى الحج أو صرف ما عنده من المال في سبيله، ولا يجب بيع ما يحتاج إليه من ضروريات معاشه من أمواله، ولا ما يحتاج إليه منها ممّا يكون لائقاً بحاله لا أزيد كماً أو كيفاً.
اللهم ارزقنا حج بيتك الحرام في عامنا هذا وفي كل عام ما أبقيتنا في يسر منك وعافية وسعة رزق.

نشرت في الولاية  العدد 108

مقالات ذات صله