من الأخطاء المنهجية في البحث الأدبي

م. د. علي مجيد البديري

يسعى البحث العلمي في مجالاته المختلفة إلى معاينة ظاهرة ما، والكشف عن أصولها وأبعادها، ومناقشة ما يتعلق بها من مسائل وأمور مختلفة بغية الوصول إلى نتائج جديدة تضيء المعتم من الجوانب المتعلقة بهذه الظاهرة في سياقها الخاص. وأمام البحث العلمي خيارات منهجية كثيرة لتحقيق هذه الغايات، غير أن ذلك يستلزم من الباحث وعياً معرفياً وثقافياً كبيراً يجنبه الوقوع في أخطاء منهجية تحرف البحث عن مساره وتوصله إلى نتائج مغلوطة. ولعل من هذه الأخطاء المنهجية ما يمكن تشخيصه بسهولة لتكرره في البحوث العلمية ولشيوعه في الرسائل والأطاريح الجامعية، ومنها على سبيل المثال التي تبحث في الظواهر الأدبية المختلفة في مجال النقد الأدبي والدراسات الأدبية العامة.

اختيار موضوع الدراسة وتحديده
وتعد الخطوة الأولى في البحث من أهم مراحلة ؛ فهي تتعلق باختيار الموضوع، وتحديد حقلَيه: الزماني والمكاني، فضلاً عن اختيار النماذج والعينات النصيَّة لغرض تحليلها، فيحدث أن تختار الدراسة موضوعاً هاماً في الشعر العربي الحديث مثلاً، وتحاول أن تعالجه بطريقة نقدية تجمع بين العناية بموضوعات النصوص الشعرية من ناحية، وبين أساليب بنائها من ناحية أخرى، وتخفق في اقناعنا بجدوى اختيارها لنماذج شعرية معينة، أو في تحديد عدد من الشعراء من بين العشرات غيرهم، والسؤال هو: هل يمكن أن يمثل هذا العدد المحدود جيلاً من شعراء كثيرين يمثلون الاتجاه الأدبي المدروس نفسه في الشعر العربي الحديث؟؟ وهنا يكون الباحث ملزماً بتقديم ما يقنع القارئ بصحة اختياراته، وبيان خصوصية الشعراء وميزتهم عن غيرهم، التي دفعته إلى اختيارهم.
إن السعي إلى إقناع القارئ بسلامة اختيارات الباحث، يجب أن يكون من خلال التحليل النقدي، فهو وحده الكفيل بتحقيق ذلك، فإذا ما أراد الباحث أن يثبت على سبيل المثال امتياز شاعر ما باستعمال تقنية فنية من تقنيات الكتابة الإبداعية بطريقة فريدة هي من مختصات هذا الشاعر الأسلوبية، فإن ذلك لا يتم إلا من خلال تحليل النصوص الشعرية المختارة بدقة ووعي نقدي وذائقة خاصة لتكون مثالاً ناجعاً لما يُراد إثباته. وفي النهاية ستتجلى أهمية هذا الأمر في انعكاسها على طبيعة نتائج الدراسة وقيمتها المعرفية.

التوازن في التحليل النقدي
يحدث في بعض الدراسات أن تكون غاية البحث غير واضحة تماماً، فيقع الباحث في منزلق اتخاذ النص وثيقة دالة على إيمان الأديب بفكرة آيديولوجية معينة، وكأن الغاية هي إثبات ذلك من عدمه!، منصرفاً في كثير من مواضع الدراسة إلى ملاحقة المعنى وشرح مضامين النصوص، متجاهلاً أساليب تشكيل المعنى وأنماطه، ويتحول النموذج التطبيقي في بعض الحالات إلى مجرد شاهدٍ لكلام عقدي جاهز، منقول من مصدر ما، وكأن الباحث ينطلق من أفكار جاهزة ليدعمها ويدلل على حضورها في الحياة من خلال النص الأدبي!. ويعود سبب ذلك إلى غياب المنهج النقدي الواضح في الدراسة.
من جانب آخر، تقع بعض الدراسات في اضطراب عند تحليل بعض النصوص، فيقف عند بعض الملامح الأسلوبية في تحليله لمقطع من نص أدبي ما، ويهملها في مقاطع من نصوص أخرى من غير مبرر علمي مقبول، مكتفياً بشرح مضامينها وإهمال بيان دلالة هذه الأساليب أو محاولة الوقوف على أنماطها. ونجد الباحث في محاولته العناية ببعض الظواهر الأسلوبية يلجأ إلى الاختيار والانتقاء العشوائي، فتارة يعنى بالتركيب الصوتي للكلمات، واستنطاق دلالات الأصوات وربطها بالتجربة الشعورية للأديب بطريقة لا تخلو من تقويل النص مالم يقله، وتارة أخرى يعنى بمفردة ثانية من مفردات البناء الفني للنص، الأمر الذي يفقد التحليل النقدي توازنه في تناول النصوص الأدبية.

حول توظيف المقتبس في البحث
لا شك أن مما تتبين فيه شخصية الباحث طبيعةُ المصادر التي يعتمد عليها، ومدى أهميتها في الموضوع الذي يريد دراسته، وهو ما يسمى بـ (مكتبة البحث)، فضلاً عن طريقة إفادته من هذه المصادر، وتوظيفها في متن الدراسة، فضرورتها تتأكد في مرحلة التأسيس النظري لظاهرة ما، سيتناولها البحث لاحقاً، وعلى الباحث أن يحذر من منزلق طالما وقع فيه الباحثون ؛ يتمثل في أن بعض المنطلقات النظرية التي يستعين بها الباحث في التمهيد لدراسته قد يهيمن حضورها سلباً، بطريقة تجسد فيها يقيناً مسبقاً، أو فكرة مسبقة جاهزة سيتم (إخضاع) النصوص لها لاحقاً. وهو ما يعد ابتعاداً عن الموضوعية في التناول، وخللاً بادياً في التحليل.
إن مما يعد من أبجديات البحث العلمي أن يعتمد الباحث على المصادر والمراجع الأصلية بشكل مباشر، ويبتعد عن النقل من الكتب الوسيطة، ونقصد بالمصادر الأصلية هو الرجوع إلى مصادر متخصصة في الموضوع الذي هو قيد الدراسة، فهناك مصادر متخصصة بالشعر ونقده، وأخرى بالنثر وفنونه المتعددة، فضلاً عن وجود مكتبة متخصصة لكل منهج نقدي من المناهج الحديثة في التحليل الأدبي.
ومن الأخطاء المنهجية المتكررة لدى الباحثين، ما يتعلق بتوظيف نصوص نقدية مقتبسة من مصدر معين، تتضمن تشخيصاً لحالة ما خاصة بأديب عباسي أو أموي مثلاً، ضمن كلام عن أديب حديث!، بطريقة يفهم منها أن الأخير هو المعني بذلك، ويصل الأمر أحياناً إلى عملية قص حكم نقدي حول نص قديم وإلصاقه ضمن تحليل نص لأديب حديث. لا بد أن يعي الباحث أهمية التوظيف الناجح للمقتبس، فالعملية ليست تزويقية، والمقتبس ليس كلاماً يرمم به متن الدراسة، أو حشواً تُملأ به الفراغات، هو يؤدي وظيفة بنائية في متن البحث، يعضد من فكرة ما ويقويها، وقد يؤسس لوجهة نظر معينة، ويضيف جديداً..إلى ما لا يعد من الفوائد ووجوه الأهمية المتعددة.

تحديد المصطلحات في البحث
هناك مسألة أساسية في البحث العلمي تتعلق بالدقة في استخدام المصطلحات وتوحيدها في الدراسة، وهو أمر يتطلب، بلا شك، مراجعة مفاهيم هذه المصطلحات في الخطاب النقدي. أو أن يرجع الدارس على أقل تقدير لأيٍّ من الدراسات التي اعتنت ببيان ذلك وتحديده بشكل واضح. وهنا يجب توحيد آلية التحليل النقدي وتحديد مفاهيمه. ويرتبط هذا الأمر بالمنهج النقدي الذي يعتمده الباحث في دراسة ؛ فيحدث أن يخرج الباحث في كثير من المواضع عن حدود المنهج الذي يتبعه في التحليل، ليستعين بآراء نظريات ومناهج تتقاطع في رؤيتها حول تحديد بعض المفاهيم، فكيف يمكن التوفيق، مثلاً، بين نظريتين تختلفان في الأصول المعرفية والمفاهيم والإجراءات، في موضع واحد !، إذ ترى الأولى أن تحقق أدبية النص مرهون بأمور منها صلته بمنشئه، خلافاً للثانية التي تقول بـ (موت المؤلف) !، وهذا ما يعطي انطباعاً لدى القارئ بأن الباحث لا يميز بين النظريات المختلفة في تحديد المصطلحات المشتركة. وستكون الأفكار مزيجاً غير متجانس من مرجعيات نظرية مختلفة، وربما متقاطعة في بعض مقولاتها وأدواتها الإجرائية.
وأخيراً.. إن تأشير الأخطاء المنهجية لا يمكن أن يحدد بنقاط، أو يحصر بظواهر، لأنها مستمرة طالما استمر البحث العلمي في سعيه إلى الكشف عن الظواهر الثقافية المختلفة ودراستها، والخطأ من شأن المتعلم، وحسب الباحث الجاد أن يكون متعلماً على سبيل نجاة.

نشرت في الولاية العدد 108

مقالات ذات صله