الكَسبِ غير المَشروعِ في دُعاءِ مَكارِمِ الأخلاقِ

مرتضى علي الحلي

لقد رَصدَ الإمامُ عليُّ بن الحُسَين, عليه السَلامُ, مُتغيراتِ حَراكِ المُسلمين, سلوكاً وخُلِقَاً في عَصره, مِنْ الذين أدركوا ظواهرَ الفتحِ الإسلامي للبلادِ البعيدةِ, وكانَ يتفاخرُ بها بنو أميّة جِهَارَاً حتى (قالوا : ولنا الفتوحُ العظامُ، ولنا فارس، وخراسان، و أرمينية، وسجستان، وإفريقية، وجميعُ فتوحِ عثمان), وتعايشوا مع الأقوامِ الجديدةِ الداخلةِ في الإسلامِ, وتَحسّنَ الوضعِ الاقتصادي, بضربِ النقودِ, ووفرتها عندهم أيام, عبد الملك بن مروان, في سنةِ ستٍ وسبعين, للهجرةِ,(وفي هذه السنةِ, ضَرَبَ عبدُ الملكِ بن مروان, الدنانيرَ والدراهمَ, وهو أولُّ مَن أحدثَ ضربها في الإسلامِ, فانتفع الناس بذلك), فَضْلاً عَنْ نزوعِ نظامِ الحُكمِ الأموي نفسه, إلى الاهتمَامِ بكنزِ الأموالِ, وتبذيرها وإسرافها في سُبلٍ غيرِ مَشروعَةٍ, وإثراءِ طبقاتٍ على حسابِ أخرى, مِمَا تَسَببوا بإفقارِ بعض الناسِ, وحِرمَانهم حقوقهم, وقَطعِ عطائهمِ, بدوافعَ عقيديةٍ وسياسيةٍ.

إنَّ كُلّ تلك الخلفيّاتِ جَعَلَتْ المُجتمعَ المُسِلم آنذاك, يتَغيّر تَبعَاً لشهواتِ الحياة الدنيا، ومُغرياتها على حسابِ العيشِ المَشروعِ والمتوازنِ في تلبية الرغباتِ والحاجات، مما شغلهم ذلك عن العبادةِ والعبادِ.
وفي النَصّ التالي مِنْ دُعَاءِ مَكارمِ الأخلاقِ ومَرضي الأفعالِ، تتَوَضّحُّ لنا صورٌ وظواهر، قد حَكَاهَا الإمَامُ، عَليه السَلامُ، بلسانِ الدُعَاءِ المُؤسّسِ والمُعالجِ, وبمنهجِ التقييم والتقويم .
فلم يكن مَا ذَكَرَه الإمَامُ, زينُ العابدين, تَرَفَاً أو تطويلاً مِنْ القولِ, دون حِكمَةٍ أو غرضٍ, يَقصدَه جِدّاً وواقعاً, حين يدعو:
(اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَتَوِّجْني بِالكِفايَةِ، وَسُمْني حُسْنَ الوِلايَةِ، وَهَبْ لي صِدق الهِدايَةِ، وَلا تَفْتِنّي بِالسَّعَةِ، وَامْنِحْني حُسْنَ الدَّعَةِ، وَلا تَجْعَل عَيْشي كَدّا, كَدّا، وَلا تَرُدَّ دُعائي عَلَيَّ رَدّا، فَإنّي لا أَجْعَلُ لَكَ ضِدا، وَلا أدعو مَعَكَ نِدّا, اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَامْنَعْني مِنَ السَّرَفِ، وَحَصّنْ رِزْقي مِنَ التّلَفِ، وَوَفِرْ مَلَكَتي بِالبَرَكَةِ فيه، وَأصِبْ بي سَبيلَ الهِدايَةِ لِلْبِرِّ فيما أنْفِقُ مِنْهُ, اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وَاكْفَني مَؤْنَةَ الاكْتِسابِ، وَارْزُقْني مِنْ غَيْرِ احتِساب، فَلا أشْتَغِلَ عَنْ عِبادَتِكَ بالطَّلَب، وَلا أحْتَمِلَ إصْرَ تَبِعاتِ المَكْسَبِ، اللهُمَّ فاطْلِبْني بِقُدْرَتِكَ ما أطْلُبُ، وَأجِرْني بِعِزَّتِكَ مِمّا أرْهَبُ, اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلهِ، وصُنْ وَجْهي بِاليَسار، وَلا تَبْتَذِلْ جاهي بِالإقْتارِ فَأسْتَرْزقَ أهْلَ رِزْقِكَ، وَأسْتَعْطِيْ شِرارَ خَلْقِكَ، فَأفْتَتِنَ بِحَمْدِ مَنْ أعْطاني، وأُبْتَلي بذَمّ مَنْ مَنَعَني، وَأنْتَ مِنْ دونِهِمْ وَلِيُّ الإعْطاء وَالمَنْعِ, اللهم صَلِ على محمدٍ وآلِهِ، وارزُقني صحّةً في عبادةٍ، وفراغا في زَهادةِ، وَعِلمَاً في استِعمالِ، وَوَرعاً في إجْمالِ ).
إنَّ تَركيزَ الإمَامِ, عَليّ بن الحُسَين, عليه السَلامُ, على ضَرورَةِ العيشِ الحَسنِ و المَشروعِ والمتوازنِ, في كَسبِه وطلبِه وأغراضه,(وَلا تَفْتِنّي بِالسَّعَةِ، وَامْنِحْني حُسْنَ الدَّعَةِ، وَلا تَجْعَل عَيْشي كَدّا,كَدّا),وأثرِ ذلك على كرامةِ الإنسانِ المُسلِمِ,والمُؤمنِ( وَلا تَبْتَذِلْ جاهي بِالإقْتارِ فَأسْتَرْزقَ أهْلَ رِزْقِكَ، وَأسْتَعْطِيْ شِرارَ خَلْقِكَ، فَأفْتَتِنَ بِحَمْدِ مَنْ أعْطاني،وأُبْتَلي بذَمّ مَنْ مَنَعَني), يُقّدُمُ لنا وزاناً وظيفياً يَقومُ على أسَاسِ التوازنِ بين إشباعِ الحاجاتِ الضرورية حياتيا, وبين الحفاظِ على قيمةِ الفَردِ, شخصيّا واجتماعيا, يَندَرِجُ تحتَ مَقولةِ, (وَتَوِّجْني بِالكِفايَةِ), ف,(عن أبي عبد الله, الإمَامِ جعفرِ الصَادق, عليه السَلامُ, قال : كان عليُّ بن الحُسَين, عَليهما السَلامُ, إذا أصبحَ خَرَجَ غَاديّاً في طلبِ الرزقِ, فقيلَ له : يا بن رسولِ اللهِ, صلى الله عليه وآله وسلم, أين تَذهبُ ؟ فقال : أتَصّدّقُ لعيالي قيلَ له : أتتصدقُ ؟, قالَ : مَنْ طَلبَ الحَلالَ, فهو مِنْ اللهِ عزّ وجَلّ, صَدقةٌ عليه ).
وما يَرتَبطُ بذلك مِنْ حقوقٍ وتبعَاتٍ عامةٍ,( وَلا أحْتَمِلَ إصْرَ تَبِعاتِ المَكْسَبِ), إذ قد يَنهَارُ التعايشُ الاجتماعيُّ عَامَةً, بمجردِ أنْ يَختَلّ العنصرُ الأخلاقي والقيمي في حَراكِ الكسبِ, عند الأفرادِ, وحَالمَا يَكنزُ الأغنياءُ الأموالَ, ويَمنَعونَ حَقَّ اللهِ فيها, (وَامْنَعْني مِنَ السَّرَفِ، وَحَصّنْ رِزْقي مِنَ التّلَفِ ),فيَتَصَنّفُ المُجتمعُ إلى صنفين رئيسين في بُنيته هُمَا :
المُترفون والفُقراءُ, وهذا ما كان ظاهراً في عصرِ الإمَامِ, عليه السَلامُ, بفعلِ طغيانِ وظلمِ وفسَادِ بني أميّة, حُكومةً, وعَقيدةً وسلوكا .
(فإنَّ الغني إذا رأى ثروته الطائلةَ لا بدّ وأنْ يَطغَى, ويَصرفَ فاضِلَ مَالِه في اللهوِ والفجورِ, والفقيرُ إذا لم يحصل على عَمَلٍ أو مَرِضَ, لابدّ أنْ يَبقى بلا غذاءٍ وكِسَاءٍ ومَسكَنٍ ومَصَحٍ,
ومِنْ جرّاءِ هذين العاملين يتوزعُ المجتمعُ إلى طبقتين دانية وقاصية, فينجمُ مِنْ ذلك, حَزازاتٌ وشحناءٌ وعِدَاءٌ وتباغضٌ, وإنَّ بقاءَ الفقيرِ يُكابدُ المَسكَنةَ ظلمٌ, وإطلاقَ سراحِ الغني يَعملُ ما يَشَاءُ, جَورٌ وإجحافٌ بالمُجتمعِ, فالعِلاجُ والحَلُّ, هو بما شَرّعه اللهُ تعالى :
أولاً : أنّه سبحانه قد حَرّمَ السَرَفَ والتَرفَ والفجورَ, وذمَ مَنْ يتعاطى ذلك, وليس لأجلِ الفقيرِ والمجتمع فحسب, بل لأجلِ الغني نفسه, فضلاً عن أنّ التَرَفَ والسَرفَ يُوجبانِ البطالةَ .
ثانيا: أنّه تعالى قد أوجبَ للفقراءِ والمَسَاكين والمَصَالحِ العامةِ حقوقاً في أموالِ الأغنياءِ تتكافىء وحوائجهم, فلا يبقى في المُجتمعِ فقيرٌ و لا مَصلَحةٌ مُعطّلَةٌ, وبهذه الخُطةِ الحَكيمَة, جَمَعَ الإسلامُ بين :
1-حريّة العَمَلِ والتجَارةِ وجمع الثَروةِ – بالوجهِ المَشروع, فِقهَاً وأخلاقَاً -.
2- المُسايرةُ مع الرغبةِ الأصليةِ في النفسِ, مِنْ حُبّ المَالِ.
3-حفظ الأغنياءِ مِنْ الإفراطِ في التَرَفِ .
4-ضمانُ الطبقةِ الضعيفةِ, فقيراً كانَ أو مريضاً أو عاجِزاً .
5- سَدُّ فراغِ المَصَالحِ العَامَةِ, حتى لا تبقى مصلحةٌ من غير رصيدٍ).

المَصَادِرُ:
1- الصَحيفَةُ السَجّادِيّةُ.
2- شرحُ نهج البلاغة, ابن أبي الحديد,ج15,ص259, ط2, قم, 1387هـ.
2- الكاملُ في التاريخ, ابن الأثير ج4,ص416,ط, بيروت,1965م.
3- روضةُ المتقين في شرح مْن لا يحضرَه الفقيه, محمد تقي المجلسي (الأول),ج3,ص209, تعليق وطبع,السيد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي پناه الإشتهاردي .
4- الفضيلةُ الإسلاميّةُ, السيد محمد الحسيني الشيرازي, ص 175,174, ط1,دار العلوم, بيروت,1426هـ.

نشرت في الولاية العدد 109

مقالات ذات صله