النسق الحر ولادة من خاصرة الشعر

السيد شاكر القزويني

لقد كان حدث الشعر الحديث بما يسمى بالشعر الحر أو قصيدة التفعيلة ومن ثم قصيدة النثر الحدث الأكبر في تاريخ الأدب العربي ، فكان هذا التحول البنيوي في النسق الشكلي والعقلي في هذا الحدث الأدبي والثقافي ما هو إلّا تفكيك وإعادة صياغة للموروث الأدبي والثقافي وهدم للبنية الصلدة لثقافتنا وهي القصيدة العمودية أي ديوان العرب. هذا الشكل الأدبي الذي استحوذ على ضمير الأمة وتربع على موروثها الثقافي الأدبي الذي أختصر في الشعر العمودي وأغراضه التقليدية المعروفة ولفترة زمنية طويلة تكاد أن تكون ملازمة لعمر اللغة العربية منذ بزوغها ولغاية هذه اللحظة بل وحاكمة نافذة الحكم فيها وفي معانيها ودلالاتها ورموزها في علاقة انصهار عضوي كابدا فيه كل ارهاصات الأزمنة والدهور الغابرة التي أثرت فيهما أثرا بليغا اغترابا وتحولا وتراجعا ثم عودة وعلوا، مرحلة عقب أخرى من صعود وهبوط.

انعطافة مدينة الشعر الفحولي
لم يكن هذا التحول والتغير الحاد في مسار الشعر غائبا عن التحولات الأدبية العالمية، وأن يحدث هذا من شاعرة فتاة تنطلق من مدينة الشعر الفحولي وعاصمته، له مدلوله الخاص في هذه المواجهة وهذا التغيير، ذلك ما طرح بقوة تساؤلات عن أسباب هذا التحول في تغيير المسار والإبتعاد عن بوصلة الشعر التقليدية التي ثبت صحة اشاراتها وميولها الجغرافية الشعرية على أرض اللغة ومعانيها، فهل كان عوزا او نقصا في جسد الثقافة يبعده عن انسانيته وواقعيته استطاع ايجاد من يستطيع اكماله او تلبية حاجته او سد نقصه ؟ ليخرج نسقا ثقافيا شعريا أكثر عمقا وأقرب الى حاجتنا الانسانية قادرا على البوح والتعبير حتى عما ما كان الخوض فيه يعد انحرافا وميلانا وقصورا في رسم الصورة المطلوبة والمشهد المرجو، كتناول الشعراء المحدثين معاني الضعف والحزن والانكسار واللين والهمس في فكرة واضحة مترابطة النسيج حيوية في انفعالاتها وعمقها ومضامينها!.

التمرد واقع حسي ذاتي وموضوعي
وبعد هذه التساؤلات العميقة والحادة، تكون الإجابة، نعم انه التمرد على نسق الفحولة والقوة والذات المتعالية هذا الهاجس الاصطناعي المفتعل غير الواقعي. انه تاريخ طويل متسلط يأتي فيه التأنيث رديفا للنقص والضعف والاحتقار وكلما لانت اللغة أتهمت بالتانيث واستحقت ازدرائها. فنذكر قول ابن قيس الرقيات لما انشد عبد الملك بن مروان:

أن الحوادث بالمدينة قد اوجعنني وقرعن مروتيه
وجببنني جب السنام ولم يتركن ريشا في مناكبيه
قال له عبد الملك احسنت لولا انك خنثت في قوافيك، فرد عليه ابن قيس الرقيات:
ما عدوت كتاب الله
(ما اغنى عني ماليه.. هلك عني سلطانيه).
فعكس بذلك عبد الملك بن مروان رأي الثقافة السائدة آنذاك بان حمّل المؤنث ضعفا وعدم استساغة أو ميوعة غير مألوفة على أقل تقدير عند الشعراء، فقد وصف شعراء قوافيهم بالمذكر (كالمزرد بن ضرار) والبعض الآخر جعل من شيطان شعره ذكرا، مستصغرا شياطين الشعراء السابقين من الإناث (كأبي النجم العجلي) وكذلك فعل (المتنبي) و(أبو تمام) فأعلن الأول ذمّه وتحقيره للمؤنث من الشعر في حين أعلن الثاني ان قصائده بنون ذكور فحول ولم يفت (الفرزدق) ان يصف شعره (بالجمل البازل) هذه الذهنية لواقع ثقافي يحتقر اللين والانكسار والضعف وهو في خانة المؤنث وما هو مؤنث فهو محقر ممجوج، ويمكننا ان نرى ما جرى في عصرنا هذا في الرد على دعوة (محمد منذور) للشعر المهموس نجد كيف وصفت الدعوة وصاحبها بالتخنيث وبنفس الأسلوب الذي جرى فيه مهاجمة قصيدة التفعيلة لذات السبب وبالتهمة نفسها الا وهي الميوعة أي الأنوثة، وهذا ما أقصى قديما ( المرأة ) لان تكون خارج الابداع الشعري ليصير كل مؤنث خارج الاطار الشعري الفحولي قلبا وقالبا، وان ارادت فما عليها إلّا ان تقول قول الفحول، كما عبّرت الخنساء في قول فحولي لا يخاطب الا أخوين فحلين وكذلك رأينا أبياتا تنسب لليلى الأخيلية تقول شعرا لا يختلف عن شعر أي فحل من فحول الشعر، إذ تقول:

نحن الأخايل لا يزال غلامنا حتى يدب على العصى مذكورا
تبكي السيوف إذا فقدن أكفنا جزعـــــــــــا وتعلمنا الرقـــــــــاق بحورا
ولنحن أوثق في صدور نسائكم منكم إذا بكر الصــــــــــــــــراخ بكـــورا

انه نسق ثقافي فحولي لم تلتفت الشاعرة فيه الى انه يصدر من أنثى حتى عجز باحث مثل (غرونباوم) عن تصنيف شعر الرثاء مع أشعار الفحول فعدّه فنّا نسويا رابطا إياه بأصل عادة النياحة وأناشيد النواح والعويل بالنساء فأوحت له طبيعة كونه رجلا ان هذا الفعل او السلوك الوجداني والانساني وهذا الحزن واللوعة ، ما هي إلا تعبيرات غير فحولية معززا قوله هذا بمثال الخنساء ، ومجانبا لحقيقة ان هذا الفن الذي تقوله النساء إنما هو من المشاعر الانسانية المكنونة وصوت الأحاسيس وصوت الحزن.

الانكسار الدلالي في النسق الشعري
والحزن هو أحد المعاني الأساسية للحياة وهو أحد المشاعر الإنسانية العميقة في الوجدان، فالفحل رجل قوي لا ينكسر ولا يضعف ولا يجب إظهار هذا بسلوكه او بشعره ليكتفي بالكمال والتعالي وهنا قد يأتي انكسار النموذج في اوزانه عضويا مع انكسارات اخرى منسجمة مع التغيير في دلالات النسق الشعري وأساليبه وكان ( الحزن ) قيمة دلالية أبرز شعريا ونسقا صاحبت القصيدة الحرة ، وكما نجد في قصيدة ( الكوليرا ) لنازك الملائكة كيف كان الانكسار الوزني مصحوبا بالانكسار الدلالي حيث يتعاضد الحزن والحكاية ليشكلا النص خارج أطر الفحولة ونسقها التقليدي ليتدرج الحزن في تطوره الى عدة مستويات ، من أولي رومانسي بسيط ومركبات تقليدية يتعقد ويتطور هذا الحزن ليثب من داخل القصيدة بنص حي ومتحرك في سباكة وحبكة دلالية وحكائية ثم لتنطلق القصيدة نحو حزن عضوي يغور عميقا في حياتنا ليصبح أساسيا ومطلوبا لا نرفضه ولا نخاف منه، هذا المنظور الجديد للشعر أكسب الخطاب الشعري بعدا تكشف فيه الحجب عن المعاني المقموعة المهشمة والمهمشة. ليشق هذا المعنى وهذه الدلالة المعزولة والمهملة لدى السادة الفحول ولتحرر على يد القصيدة الحرة.

نمو الصرخة الانسانية عند السياب
أسهم (بدر شاكر السياب) إسهاما جليلا في ترسيخ هذه الدلالة حتى استنبتها استنباتا في ارض القصيدة الحرة الخصبة ليستنطق دموع الرجال الذين أنكروا عيونهم اذا دمعت، كبرا وجلافة ليجري توظيف الحزن بأسلوب أكثر حساسية وأعمق تركيبا مع اكتشافٍ لأبعاد ثالوث (الحكاية والأنوثة والطفولة) ليصبح الشعر صرخة بشرية تنبع من أعمق أحاسيس الانسان ومعاناته وحاجاته بل وآماله ورغباته ورؤاه. ونرى ان السياب تدرج في الوصول الى النسق الشعري الجديد وعبر التجريب والاستكشاف والرصد والقلق، متلمسا طريق الشعر بكل حواسه ومداركه، فتراه يستدرج الشعر شكلا ومضمونا الى نسقه الجديد، ففي قصيدته (مدينة بلا مطر) نجده يفتتح نصه بمطلع فحولي النسق لا يلبث ان يسحب القصيدة الى ما يريد بنسقه الشعري الحر فيؤنثها :

مدينتنا تؤرق ليلها نار بلا لهب                    تحم دروبها والدور ثم تزول حماها
ويصبغها الغروب بكل ما حملته من سحب     فتوشك ان تطير شرارة ويهب موتاها
(صحا من نومه الطيني تحت عرائش العنب.. صحا تموز، عاد لبابل الخضراء يرعاها)
هذا المطلع التقليدي لم يلبث حتى تأنثت بنسقه وموضوعه عناصره الداخلية، فعشتار ستحل محل تموز (الأب) الذي لم يستطع تلبية حاجة الأطفال فأخذوا يبحثون عن الأم (الأنثى):

وتبحــــــــــــث عنك أيديــــــنا
لان الخوف ملأ قلوبنا، ورياح آذار
تهز مهودنا فنخاف، والاصوات تدعونا
جياع نحن مرتجفون في الظلمة
ونبحث عن يد في الليل تطعمنا، تغطينا
تشد عيوننا الملتفتات بزندها العاري
فالنص ابتدأ فحوليا ثم تأنث لأسباب انسانية وجوهرية، ولان آذار لا يبث سوى الرياح والقسوة التجأ النص (الطفل) الى الأم الأسطورة والقصيدة التي تفاعل معها السياب في كل نصوصه بهذه الحكائية / الأم ، انها عناصر انثوية لكنها جوهرية، الأم والحكاية ثم يدخل القرية (جيكور) لتحل محل الأم التي تبادل بجسدها الغائب الضروري والهام كل الأشياء المهمة والمؤثرة والحاضرة مع روح هذه الأم الحاضرة دوما كما في القصيدة (جيكور أمي):
جيكور مسي جبيني فهو ملتهب
جيكور سدي غشاء الظل والزهر
سدي به باب افكاري لأنساها
جيكور لمي عظامي وانفضي كفني
أفياء جيكور أهواها
كانها انسرحت من قبرها البالي
من قبر أمي التي صارت أضالعها التعبى وعيناها
من أرض جيكور ترعاني وأرعاها
من هذا النسيج الابداعي لا ينشأ نص شعري جديد فحسب بل ينشأ انسان مختلف بديل عن الفحل الذي يقف فيه المتنبي هاتفا ليقول كلمته الشعرية بكل استعلاء وفخر بل وبنرجسية وفق معاييرنا الإنسانية الآن.
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا أنا الصائح المحكي والآخر الصدى

التقليدي والذات المغلقة
يصبح هذا الأمر جليا مع ما روي عن الفرزدق حين أطلق مقولته الشهيرة : اذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها ، قاله في امرأة ذكر له انها قالت شعرا. وهنا توصف الفحولة بكونها ذاتا مغلقة لا تقيم وزنا لما هو خارج إطارها ، أما الشاعر الحديث فهو أقرب الى الانسان وواقعه لأنه يسمح للذات ان تنطلق لتعبّر عن كل مكنوناتها حتى ذلك الحزن او الألم أو الانكسار وأوجه ضعفها وشفافيتها ورقتها، قبحها وجمالها، كمالها ونقصها.
ان هذا بمثابة فتح شعري فهو حادثة لها دلالاتها الحضارية ، وان كسر العمود الفحولي شكلا ومضمونا مهّد الطريق للعنصر النسائي في دخول هذا المعترك الفني الخاص بالفحول اصلا ، ليثمر هذا الفتح الثقافي عن قوافل من النساء المبدعات في فترة قصيرة لا تقارن بتاريخ الشعر العمودي الذي لم يشر إلّا لشاعرة واحدة هي الخنساء مع القليل الهامشي الذي لا يصل الى مصاف الشعراء الذكور ، ليجد الشعراء والشاعرات بعد هذا الفتح مجالا في القول الشعري يمارسوا فيه انسانيتهم بكل أبعادها ( قوة ، ضعف ، تسامي ، انحطاط ) ليتحرر الشعر من التأله والطغيان الذكوري وادعاءاته المزعومة . كما أشارت فدوى طوقان الى ذلك والى قصيدة التفعيلة التي تمنحها مجالا حرا في القول وفي تحقيق الذات.
وهنا تكون قصيدة الشعر الحر وقصيدة التفعيلة حادثة ثقافية لا حادثة عروضية او أدبية او جمالية مجردة فحسب.

نشرت في الولاية العدد 110

مقالات ذات صله