ولادة الإنسان الأكمل محمد صلى الله عليه واله

بدري البدري

إنها الصورة التي رسمتها يد القدرة الإلهية والصنعة التي كانت لله إنه سيد ولد آدم وخاتم المرسلين سيد البشر جميعأ.
هو أشرف واسطة بين فاطر الخلائق وبين عباده في إيصالهم إلى مرتبة العبودية الحقَّة وبلوغهم أسمى درجات الخُلُق الرفيع.
شاء الله أن يختار حبيبه ونجيبه وسيد خلقه محمد(صلى الله عليه وآله) كي يكون سفيرا ورسولاً إلى عباده ليخرجهم من ظلمات الجهل وأعراف الجاهلية وعبادة الأهواء وآلهة صنعوها بأيديهم توهموا قدرتها على نفعهم وضرهم، إلى أنوار الهدى والعلم والمعرفة وهديِّ المُصلحين ومعرفة الله خالق كل شيء ومبدعه

إوكان اصطفاء الباري الحكيم(جلَّ شأنه) لشخص المصطفى(صلى الله عليه وآله) المحمود عنده الأحمد بين عباده لهذه المرتبة العظيمة والمنصب الوتر إذ كان ولم يزل أقرب حبيب من ربه وأعظم منزلة منه من جميع الخلق وخاصة الناس والصفوة من الأنبياء والمرسلين فكان خاتمَ رسل الله وأشرفَهم محلاً منه وجاء برسالة السلام والإسلام المتممة لرسالات من قبله من النبيين (صلوات الله عليه وعليهم).
وماكان اجتباء الله(جلَّت حكمته) لنبينا(صلى الله عليه وآله) لهذه المهام الجِسام إلا لأهلية علمها الله فيه واستحق أن يصل إلى مقامٍ من ربه لم ولن يرقى إليه أحد من عباده المرسلين فضلاً عن غيرهم قال تعالى في سورة النجم:(ثم دنى فتدلى ـ فكان قاب قوسين أو أدنى ـ فأوحى إلى عبده ما أوحى) .
فكان الوليد المبارك والهبة الرحمانية والرحمة العالمية بكل مصاديقها التي جسدها من خلال أفعاله وسماته في مسيرة حياته النورانية، ففي السابع عشر من شهر ربيع الأول من عامٍ أُرِخَت فيه حادثة الهجوم على الكعبة المشرفة بقيادة إبرهة الحبشي حيث حفظ الله بيته بمعجزة منه، بزغ النور المحمدي وشعَّ ضياء طلعته على أرجاء الأرض لِتُسر نفوس طيبة ويستبشر المستضعفون والمحرومون من أبسط ما يسد جوعة الإنسان وحاجاته بإمام الإنسانية ورسولها المبعوث ليأخذ بأيديهم إلى عالم الفضيلة والعدل والمساواة.
ولد(صلى الله عليه وآله) ومعه معجزات نبوته منها أن أمه آمنة بنت وهب رأت حين ولادته( صلى الله عليه وآله) نوراً أضاءت له قصور الشام، واقتضت الحكمة الربانية أن يولد يتيم الوالد لتكون ولادته واحدة من آيات نبوته التي صنعت من يتيمٍ ينظر الناس إليه نظر رأفة أعظم وأشرف وأكمل إنسان عرفه تأريخ البشر من جانب، وليتعلم المرء أن همته العالية هي السبب الذي يصل به إلى أعلى المطالب وإن الأزمة تلد الهمة والفرج وتصنع الأفذاذ. وقالت أمه أيضاً أنها أُتِيَت حين حملت برسول الله وقِيل لها: إنك حملتِ بسيد هذه الأمة، فإذا وقع على الأرض فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد فإن آية ذلك أن يخرج معه نورٌ يملأ قصور بُصرى من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمداً، فإن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء والأرض، واسمه في الإنجيل أحمد، يحمده أهل السماء والأرض، واسمه في الفرقان محمد: قالت فسميته بذلك، ومن معجزاته انه تكلم أثناء ولادته وشهد لنفسه بالنبوة وأنه دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ثم تلا قول الله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا)، وعند ولادته (صلى الله عليه وآله) اهتز إيوان كسرى فسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ومن معجزاته حين ولادته أن غاضت بحيرة ساوة، وحُجبت السماء عن الشياطين، لأن الشياطين كانت قبل ولادة النبي(صلى الله عليه وآله) تسترق السمع من السماء، وأما بعد ولادة النبي(صلى الله عليه وآله) فكانت تقذف بالشهب كلما صعدت إلى السماء، قال تعالى في سورة الحجر:(ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين ـ وحفظناها من كل شيطان رجيم ـ إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين).
ومع مسيرة التكامل المحمدي إذ مات والده قبل شهرين من ولادته وماتت أمه وعمره ست سنوات ليواجه الحياة يتيم الوالدين فيكفله جدُّه عبد المطلب ويعيش في كنفه ورعايته ويهتم به اهتماماً بالغاً ، وكان يقربه ويدنيه منه وهو يعلم أن النبي(صلى الله عليه وآله) سيكون له شأن عظيم، يقول ابن عباس: كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة لايجلس عليه إلا هو إجلالاً له، وكان بنوه يجلسون حوله حتى يخرج عبد المطلب، فكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يخرج وهو غلام فيمشي حتى يجلس على الفراش فيعظم ذلك على أعمامه ويأخذونه ليأخروه، فيقول لهم عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم دعوا بُني فو الله إن له لشأناً عظيماً إني أرى إنه سيأتي عليكم يوم وهو سيدكم، إني أرى غرته غرة تسود الناس ثم يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقبله ويقول: ما رأيت قبله أطيب منه ولا أطهر قط ، ولاجسداً ألين منه ولا أطيب منه، ثم يلتفت إلى أبي طالب ويقول له إن لهذا الغلام لشأناً عظيماً فاحفظه واستمسك به فإنه فردٌ وحيدٌ وكن له كالأم، لايصل إليه بشيء يكرهه، ثم يحمله على عنقه فيطوف به اسبوعاً.
ويموت عبد المطلب وعمرالنبي(صلى الله عليه وآله) ثمان سنوات فينتقل إلى كفالة عمه أبي طالب فيبذل جهده في رعاية ابن أخيه وهو يرى فيه رأي والده وينظر إليه نظر تقديس ويترقب يوماً يسود فيه الناس ويأخذ بأيديهم نحو كل فضيلة وهدى، حتى إذا بلغ النبي(صلى الله عليه وآله) الأربعين وأرسل بدين الرحمة للعالمين وراح ينادي في طرقات مكة ووديانها قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وقف أبو طالب معه مؤيداً ولدعوته مسدداً بلسانه ووجاهته عند قومه وهيأ نفسه مع الفتية الذين آمنوا به من ولده كي يكونوا سداً منيعاً دون وصول المشركين والمنافقين إليه بسوء.
وراح(صلى الله عليه وآله) في مسيرة حياته المنورة يجسد صورة الإنسان المثالية التي أرادها الله تعالى أن تكون أسوة لغيره قال الله تعالى في محكم آياته وجميل خطابه :(لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخِرَ)(الأحزاب 21 ) .
والأسوة هوالمثل الأعلى لكل قوم، فكان نعم العبد لخير معبود وكانت عبادته من جنس خُلُقِه الممدوح من الناس قبل بعثته وبعدها والمشهود له في آيات الكتاب الكريم قال تعالى:(وإنكَ لَعلَى خُلُقٍ عَظيم) (القلم آية 4 ).
فتراه يجلس مع أصحابه ولايميز نفسه عنهم بملبس أو مُتكأ حتى يأتي من لايعرفه يسأل عنه فيقول أيكم محمد(صلى الله عليه وآله) فيُرشدُ إليه وقد جلس مع المسلمين كحلقةٍ دائرةٍ لايميزه عنهم حطامُ الدنيا إلا نور الرسالة ومحايل النبوة.
ملك القلوب بشمائله وبيانه، وأعرض عن الدنيا وزينتها وأقبل على ربه وآخرته، وكان يرى غنى المرء بنفسه لا بدنيا زائلة، وكان يقول شر الناس من باع آخرته بدنياه، وشر من ذلك من باع آخرته بدنيا غيره.
سلوكه البر، ومخافة الله سبيله،اشتغل بنفسه عن الخوض في أمورٍ لاتعنيه، أوصى بالجماعة وكان منهم .
جسد الأخلاق بسيرته وحملها شعاراً وهدفاً من بعثته بقوله:( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
جمع الفضائل كلها فذاب في حبه المؤمنون وقصرت عن وصف كنهه كلمات المادحين حتى قال: حسان بن ثابت
وأحسنُ منـك لم تـرَ قطُّ عيـني
وأجملُ منك لم تلـدِ النســاء
ولــدتَ مُبرءً من كُــلِ عـيــبٍ
كـأنـكَ ولـــدتَ كما تـشـــاء

نشرت في الولاية العدد 111

مقالات ذات صله