تحولات الخطاب البصري الجمالي

د. أحمد عبيد كاظم

التحول صفة أساس للحياة, فهي تسير بحركة ديناميكية شمولية تطورية, لا يفقد بها الإنسان هذه الصفة إلا بفقدانه القابلية على الحياة ,والرؤية البصرية لشيء ما ثابت هذه الرؤية تتغير بفعل الزمن, فالرؤية الجديدة تحويلية بالنسبة لما قبلها- الثابت – لاكتساب العقل خبرة جديدة, إذ أن تأكيد المتغير والمتحول يأتي بفعل الإدراك والتلقي لهذه المحسوسات وصولا إلى نوع من التطور في ذات المادة الحسية والتي هي مفردة فاعلة عند الفنان والتحولات التي تشير إلى تغيرات في داخل البنيات المتعددة المتمثلة بالبنية الاجتماعية والنفسية والفنية والأسلوبية وغيرها, هذا النسق من التحولات له قوانينه الخاصة, ومن شأن هذا النسق أن يظل قائماً ويزداد ثراء بفعل الدور الذي تقوم به التحولات نفسها دون إن تخرج تلك التحولات عن حدود النسق.

ذاكرة بشرية خارج الجسد
والباحث يجد في هذه المتغيرات متحولات في البنى والأنساق الكلية للحياة, كذلك بنى الفن الحديث بأنساق مختلفة, أي أننا بصدد تحول في الوعي البشري نتيجة للتغيير الهائل في العمل على توحيد الذاكرة الإنسانية مع الخلية الالكترونية لصناعة ذاكرة جديدة خارج الجسد, وتأسيس نوع جديد من المعرفة تنسجم مع سلالة جديدة بالضرورة مع الفن, هذا التغيير السريع في مجال التكنولوجيا أدى إلى تغير مجال الاهتمام بمعايير الذوق الجمالي, فحلول سلع جديدة يومياً بمعدل متزايد تحل محل سلع قديمة مستخدمة يؤدي إلى تضاؤل الإحساس بالتعلق بالممتلكات المادية, ثم الذهنية بدورها بعد وقت قصير, وبالتالي السرعة في إعادة النظر في القيم الفلسفية والفنية بحيث تساير التعبير عن الأذواق المتغيرة, والباحث يحدد أهم التحولات التعبيرية في هذا الوقت بتحرير العمل الفني من القيود والرواسب والمرجعيات العقائدية والأيدلوجية الاجتماعية والسياسية والثقافية أولا، وثانيا برفض كل ما هو أصيل وثابت ومقدس وموثوق وفريد باتجاه ما هو مستنسخ ومكرر ومستهلك يباع ويشترى على نحو مألوف وبالتالي الميل نحو زيادة مساحة التلقي والتداول والاستهلاك, فالإنتاج هو القيمة والمبدأ الاجتماعي والثقافي الذي تتحكم به قوانين السوق, وما ذُكر يمثل إستراتيجية التعبير في مرحلة ما بعد الحداثة.

اكتشاف العالم وتحولاته
لعل ما يميز هذا العالم هو حالة التغير, وجميع الكائنات تخضع لهذا التغير, ولان الحياة مستمرة بالتحول ومتعددة في مظاهرها ومتنوعة في أشكالها المادية, فهي مثيرة لتساؤلات الإنسان وبلورة أطروحاته الفكرية وهو يتأمل ويتدبر مظاهر الكون ومفردات البيئة. وتأسيس أسس فلسفية ترتبط بالوجود الإنساني المدرك للوجود. وللإنسان إرادة قوية لتثبيت وجوده على أرض الواقع صانعاُ قيمه وفي وسعه إضافة معاني جديدة, فللحياة مطالب متجددة تقتضي قيم ومعان جديدة, والتعبير عنها, يقوم بها الفنان عبر عملية الإبداع بتقديم شيء جديد يتجاوز عن الواقع, وأن كان ينبثق منه, والفنان هو الإنسان الذي يشعر بأنه لا يمكن أن يكون للواقع معنى ما لم ينظم في نطاق عالم ما, وعليه تقع عملية اكتشاف ذلك العالم, والفنان هو (المصمم) الذي ينظم ذلك العالم عن طريق مجموعة من الوسائط الاستطيقية الخاصة.
فالتعبير يشمل كل التحولات وهي (تحولات فكرية, تحولات جمالية، تحولات شكلية, تحولات أسلوبية, تحولات وظيفية, تحولات رمزية, تحولات في المعنى والدلالة والمضمون, تحولات تقنية) وجميع تحولات التعبير تشترط في بنيتها تحولاً فكرياً بالدرجة الأولى, ومن ثم تحولاً جوهرياً في الشكل وفقاً للتحول الفكري. والفنون بشكل عام وفن التصميم بشكل خاص يمثل أحد روافد المعرفة ونتاج التحولات الحضارية, يتجاذب التأثير والتأثر في جوانب الحياة المختلفة, فالقيم التي تؤثث هذا الكون قابلة للإدراك والتغير, فالعمليات التصميمية لا تكتسب خصائصها الجمالية والوظيفية إلا من خلال المنهج الفلسفي الذي يرتكز على قوانين تبحث في علاقة الفكر بالوجود وعلاقة الوعي بالمادة .
التفكيكية مناخ للشك والرعب
ومصطلح التفكيكية (Deconstructivism) المتداول في الدراسات النقدية المعاصرة يتضمن مفاهيم معادية (للميتافيزيقيا), ولعل واقع الدراسات النقدية ذات المنشأ الغربي من (ظاهراتيه وبنيوية وتفكيكية) جاءت مرافقه مع تبعية سياسية واقتصادية وإعلامية وتكنولوجية فالتحول في الأنظمة الفكرية وفي مسار احتكار البنية إلى مسار ترويضها وإزاحة المعاني والمراجع الثابتة تصبح الفنون معها في قطيعة مع التاريخ ومع الإنسان ومع نسق كل النصوص والأنظمة الموجودة وزعزعة استقرار الثنائيات .
وهنا نجد إن التفكيكية ولدت في مناخ الشك والإحساس بالرعب والدمار الذي لحق بالعالم بعد الحرب العالمية الثانية, إذ فشل (الدين والعلم في الغرب) في تحقيق السعادة والأمان للبشر, فعاد الشك عنيفاً (وارتبط الإحساس بالخديعة التي تمخضت عن تجربة الإنسان مع العلم والتكنولوجيا) بإحساس جديد استحالة المعرفة, وخيم شك فلسفي جديد على العالم, انه شك نتشه المقبض والفوضوي, ومما ذكر نجد إن التفكيكية شككت بإمكان تحقيق المعرفة بهذا العالم المتحول والمتغير انطلاقا من وجود ثابت يطلق عليه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا مسميات عديدة (المركز الثابت , الجوهر , مركز الوجود , الوعي , الحقيقة ,الإنسان) وهي مسميات تشير إلى (المدلولات العليا التي تمثل أرضية ثابتة تقف فوقها متغيرات العالم الخارجي الذي يمدنا بالمعرفة, وهذا المركز الثابت هو ما يرفض المشروع التفكيكي الاعتراف به), فموت المؤلف وانتفاء القصدية وغياب المركز الثابت واللعب الحر للدوال والمراوغة وتعدد القراءات والتفسيرات اللانهائية كل هذه تشكل (إستراتيجية التفكيك). ولها أشتغالاتها في النتاج الفني والأدبي لتيارات فن ما بعد الحداثة, ومنها فن التصميم, إذ يستعير البناء التصميمي التراكيب المتعددة للأنساق التصويرية, ضمن حالات التشظي في البنى المكونة للتصميم وتبادل المراكز وتهشيمها, بحيث تكون الغاية من تفكيك (الشكل) وفقا لآليات التفكيك ضمن بنية التصميم العامة, إجراءً ذا فعل وظيفي وجمالي, ليتحكم في انساق العناصر التصميمية ويكون الحفر في فعل (التدمير) داخل التكوين العام, ضرورة ترابطية لتحريك المراكز المهيمنة والمهشمة, نفياً أو تأكيداً وهذا يشكل إعادة لبناء التصميم بصورة مغايرة, نتيجة لعبثية الهدم في البنى التصميمية, فخطاب التفكيك يحتفي بالتبدلات والتحولات الآنية, ولعل تقويض المراكز في فلسفة دريدا, القصد منها أن تبدو الدوال في حالة حركة مستمرة لا نهائية, متحررة من مراكزها, وهذا يُفعّل نشاط الأزواج المتغايرة أو الثنائيات المتناقضة.
وانطلاقا من ذلك اعتمد دريدا في نقده لمظاهر التمركز على فكرتين اثنتين، أولهما التوجه نحو البنية والتركيب بشكل مستمر, وعدَّ كل الأنظمة والبنى تمتلك مركزا (نقطة للأصل)، والأخرى ان كل الأنظمة والتراكيب تتألف من ثنائيات متعارضة هذه الثنائيات هي الأصل في مشروع هدم التمركز, وهنا وبشكل دائم طرف له أهمية تفوق أهمية الطرف الثاني في هذه الثنائيات في العمل التصميمي يتضح من خلال الفاتح والغامق, والخط الأفقي والعمودي, والاتجاه الأعلى والأسفل, والملمس الناعم والخشن, التجريدي والتشخيص…الخ.
ويؤكد دريدا على أن مهمة الإستراتيجية التفكيكية هي تفادي تسكين المتعارضات الثنائية الميتافيزيقية, فمن خلال اختلافها يتولد المعنى، ولأن ولادة المعنى كانت محكومة بسلطة اللوغوس, والدلالات المتأتية من خلال هذه السلطة هي دلالات ذات صفة منطقية وعقلية وهدم التمركز هو تدمير لجميع الدلالات التي مصدرها اللوغوس, وبالتالي تحطيم الأصل الثابت للمعنى بوصفه مصدرا، وتقويضه وتحويل كل شيء إلى خطاب وتذويب الدلالة المركزية ومن هذه العملية تتحول الكتابة إلى أهمية قصوى, ويصبح الاهتمام بالكلام مضمحلا مما ذكر قد تم قرع نواقيس نهاية الميتافيزيقيا.

الواقعي والحقيقي والهدم
بدايات العقل المعرفي تشير إلى مجموعة من النصوص غير معنونة موضوعات تلك النصوص تسمى ب (الفلسفة الأولى) أو (علم اللاهوت) وتسمى أحياناً بالحكمة وسميت بالفلسفة الأولى تميزا لها عن الفلسفة الثانية وهي العلم الطبيعي القائم على المنهج العلمي التجريبي, بالحكمة لأنها تبحث في العلل الأولى، وتسمى أيضاً بــ(العلم الإلهي) لأن أهم مباحثها هو الله باعتباره الموجود الأول والعلة الأولى للوجود وكل تلك الأفكار والنصوص تسمى بــ(الميتافيزيقيا) وتعني البحث فيما وراء الظواهر المحسوسة, وهي مرادف للخارق للطبيعة في اللغة اللاتينية.
والباحث يعتمد على تصنيف الأفكار الميتافيزيقية ونقدها في توضيح تاريخ الأفكار وتحولاتها, والسبب في ذلك لأنها المنظومة الشاملة من المفاهيم التي سيطرت على الفكر الغربي لحقبة طويلة من الزمن, فالميتافيزيقيا لا تبحث عن الواقعي وإنما عن الحقيقي, ما هو وراء الواقع والخبرة الحسية، فخبرتنا الحسية تفسر الظواهر تفسيرا شرطيا، وتعتمد على الملاحظة والتجريب, وفي الميتافيزيقيا التفسير يعتمد مقولات معينة تقع خارج خبرتنا الحسية وهي تشترط وجود عقل وان كانت لا تنكر الواقع المادي.
هذه المفاهيم الكلية المجردة المتعالية عن العالم الواقعي تدعو للاعتقاد بأن ما يؤسس لوجود الأشياء هو وجود مبادئ وقواعد ثابتة لها مركز تتمحور حوله وعدّها وجود مطلق, دون الاهتمام بالكائن البشري الذي يتميز بالديناميكية والتغير والتحول, وهي غير خاضعة للحس التاريخي وصيرورته، وتهمل الشروط الطبيعية والوجودية والزمانية والمكانية التي لها ابلغ الأثر في حصول التحولات والتغيرات في الفكر والواقع, فأرسطو يؤكد إن علم الوجود أو ما بعد الطبيعة هو علم قائم بذاته وقد انفرطت منه باقي العلوم, وان الميتافيزيقيا اعم العلوم وأكثرها تجريداً لان موضوعها الأساس والنهائي هو الله من حيث إن الله هو العلة الأخيرة لكل ما هو موجود.
والباحث يحدد انعكاسات التعبيرية للتحولات الفكرية في تصميم ملصقات ما بعد الحداثة في جانبين هما:
1- مفهوم الهدم: والمقصود بمفهوم الهدم الدعوة إلى هدم وتقويض التراتبية الهرمية التي إقامتها الميتافيزيقا في مراحلها الكلاسيكية والحداثوية لبنية تشكيلية منظمة ومغلقة، من حيث الشكل مثلاً تتناقض مع مبادئ مدرسة الباوهاوس وحركة دي ستيل والمدرسة السويسرية في تصميم الملصقات, القائمة على تأكيد الجانب المثالي في الترتيب والتنظيم ووحدة التصميم, بل إن المدرسة السويسرية تفرض توظيف شبكات رياضية (Grids) باعتبارها وسيلة قوية في تنظيم المعلومات وعرضها بطريقة متوازنة ومنسجمة. أما من حيث المضمون فأن هذه الدعوة تتناقض مع المدرسة السويسرية في الجانب التعبيري التي تدعو إلى التعبير عن هموم وواقع المجتمع ومشاكله بعيداً عن تجارب وذاتية المصمم.

التمرد على القيم المطلقة
والباحث يحدد التحولات التعبيرية في جانب التحول الشكلي في تصميم ملصقات ما بعد الحداثة بما يلي:
1ـ توظيف الصور الفوتوغرافية في تصميم ملصقات ما بعد الحداثة وفق مفهوم (العودة إلى الماضي) كمحاكاة لتطوير الأصل كشكل مستعار الهدف منه التشكيك بجماليات الحداثة في تفسير حقائق ميتافيزيقية.
2ـ توظيف العناصر التيبوغرافية في تصميم ملصقات ما بعد الحداثة لكتل النصوص والمساحات اللونية الملمسية وفق مفهوم (التعقيد والتناقض) لضرب النظام أو الزمن أو العقلانية أو المنطق من خلال الجمع بين المتضادات الشكلية واللونية لكل النصوص والإشكال والرموز وعدم إكمال عبارات العنوان أو النص وصولاً لتفتيتها لخلق الفوضى ضمن مستويات متعددة من الخلفيات .
3ـ توظيف العناصر التيبوغرافية في تصميم ملصقات ما بعد الحداثة وفق مفهوم (الانقسام والتكرار) من خلال انتشار المفردات التصميمية الصورية والنصية باتجاهات مختلفة متعددة المراكز وبصورة لا تسمح بضبطها والتحكم بها .
4ـ توظيف العناصر التيبوغرافية لصور بعيدة عن التشخيص أو تحديد هوية الشكل في تصميم الملصق وهي عناصر خطية ولونية ذات اتجاهات متنوعة تعبر عن ضرورات داخلية ضمن سياق يرفض كل فكرة مسبقة, مبتعداً عن الأصول إذ لا وجود لنظام طبيعي وعقلاني للاوعي يتمظهر بنوع من التبقيع اللوني والخطي وبما يتلاءم وإعلان موت الشكل واللاشكل وبما يحقق تعدد القراءة وعدمية النص لملصق ما بعد الحداثة.
5ـ توظيف العناصر التيبوغرافية من خلال التمرد على القيم المطلقة في رفض التعبير عن الواقع الاجتماعي, أو أي سلطة مركزية مع نسف للمعايير الجمالية الكلاسيكية ورفض المنظور والتشويه والاختزال, وتأكيد اللاحقيقة واللاجمال واللاشيء كلها تؤكد قيم النسبية المطلقة فالنص البصري للملصق منفتح يحمل سمة التحرر والانفلات من المقيدات المرجعية وخروجها عن المألوف الحسي والعقلي, إذ إن الحقيقة هي الشكية المستمرة والإرجاء المستمر لفكرة الحقيقة اتجاه الوجود, فالعدمية هنا تندفع للاكتساح حقيقة الأيمان بالحقائق والقيم المعرفية والجمالية. فالنص (الملصق) تتوالد فيه الأشكال وفقا لضروراتها الداخلية واكتفاءها بذاتها وتحولاتها وصيرورتها الداخلية, في تغريب ورفض الواقع ونكوصه نحو بدائية تشاؤمية تترجم عالماً مكتملاً من القلق والحداد المستمر تسكنه العزلة والظلمة, ولسان حاله يقول إن الحياة عديمة الألوان وان السعادة غائبة, ليختصر الفنان القول بأن الشر يتغلب على الخير وان العدم أفضل من الوجود, ويبدو للباحث أن إشكالية التعبير عن الوجود في الحقب التاريخية التي تتسم بالصراع (الأيديولوجي والعسكري والاجتماعي والاقتصادي) تتسم بالتغير والتحول وبما يتمحور عنه سمات في المبالغة والتشويه والنشاز البصري, وكلها تمظهرات اللاوعي بأشكال لا موضوعية, وهنا لا توجد معايير أخلاقية للاوعي لكي يكون جميلاً أو بشعاً, والحقيقة الداخلية هي الحقيقة الوحيدة. أما الجانب الثاني المتمثل بمفهوم العدمية, وهي عدمية ناتجة عن تفكك عالم المثل والقيم الكلية وهذا يعني اللانظام والفوضى والتشظي باتجاه ما هو تعددي ومتنوع, وملصقات ما بعد الحداثة تجد في خاصية التشظي والتفكيك التي يمتلكها العمل الفني قيمة معرفية بإمكانها منح أي عنصر تيبوغرافي أي موضع قابلية تفكيك المعنى, وهذا ما يقود إلى قراءة أخرى أي مزج بين قراءة جديدة وأخرى مختلفة, وهذا ما ينعكس في الجانب التعبيري خلخلة التنظيم الشكلي للعناصر وبالتالي خلط المدلولات وصولاً إلى عنصر المفاجأة والدهشة لدى المتلقي الذي يقوم بتأويل النص البصري (الملصق) .

نشرت في الولاية العدد 111

مقالات ذات صله