مَفهــومُ التقليـدِ ووجوبه عَقلاً وشَرعَا

مرتضى علي الحلي

التقليد لغة: وضع الشيء في العنق محيطاً به كالقلادة، أمّا اصطلاحاً هو: الالتزامُ بفتوى الفقيهِ الجامعِ للشرائطِ الشرعيةِ من الاجتهادِ والعدالةِ والإيمانِ والضبط المُتعَارَفِ والحياةِ وغيرها, مِن غيرِ مُطالبته بالدليلِ.
وهو وسيلةٌ شرعيّةٌ وعُقلائيّةٌ يَتمكّنُ المُكلَّفُ بها من أداءِ عباداتِه ومُعاملاتِه ووظائفِه, حتى أنّه ارتكزَ لدى العُقلاءِ الرجوعُ في شؤونهم جميعا إلى ذوي الاختصاصِ والعِلْم, ولقد أكّدَ الفُقهاءُ في بابِ الشريعةِ والأحكامِ الفقهيةِ الفرعيّةِ أنّه: (يجب على كلّ مكلَّف لم يبلغ رتبة الاجتهاد أن يكون في جميع عباداته ومعاملاته وسائر أفعاله وتروكه مقلداً أو محتاطاً، إلا أن يحصل له العلم بأنه لا يلزم من فعله أو تركه مخالفة لحكم إلزامي و لو مثل حرمة التشريع، أو يكون الحكم من ضروريات الدين أو المذهب ــ كما في بعض الواجبات والمحرمات وكثير من المستحبات والمباحات ــ ويحرز كونه منها بالعلم الوجداني أو الاطمئنان الحاصل من المناشئ العقلائية كالشياع وإخبار الخبير المطلع عليها).

وأمّا في بابِ أصولِ الدّينِ فلا يجوزِ التقليد فيها، لأنَّ المعيارَ في أصولِ الدّينِ هو الإذعانُ والاعتقادُ, الذي ينبغي أنْ يتصدى له المُكلَّفُ بنفسِه نَظَرَاً وتفكيراً وإيماناً, بينما في الفروعِ المَطلوبُ مِن المُكلَّفِ هو العملُ على مُقتضَى فتوى المُجتهدِ, لا الاعتقادُ بها.
فإذن (يكفي في التقليد تطابق عمل المكلف مع فتوى المجتهد الذي يكون قوله في حقه حجة – مع إحراز مطابقته لها).
وبعبارة أخرى التقليد هو: (ان ترجعَ إلى فقيه لتطبق فتواه , فتفعل ما انتهى رأيه إلى فعله وتترك ما انتهى رأيه إلى تركه, من دون تفكير وإعادة نظرٍ وتمحيص, فكأنّكَ وضعتَ عملَك في رقبته- كالقلادة- مُحمّلاً إيّاه مسؤولية عملك أمام الله تعالى).

الأدِلّةُ عَلى وجوبِ التَقلِيدِ عَقلاً وشَرْعَا:
إنَّ التقليدَ يُمثّلُ أمراً ضرورياً وبديهياً وفطرياً, يقتضي في نفسِه رجوعَ الجَاهلِ إلى العَالِمِ, والعقلُ يدركُ ذلك بالفطرةِ والبداهةِ, وإلاَّ إذا لم يَرجَع الجاهلُ إلى العَالِمِ سَيُسَدُّ بابُ العِلْمِ أمامَه, ويَعجزُ عن معرفةِ الأحكامِ الشرعيةِ والتكاليفِ الواجبةِ,.
ويدلُ على وجوبِ التقليدِ (لزومُ العُسرِ والحرَجِ الشديد، بل اختلال نظامِ العالَمِ- في حالِ عدمه – إذ الاجتهادُ ليس أمراً سهلاً يحصلُ عند وقوعِ الواقعةِ، بل يحتاجُ إلى صرفِ مّدةِ العُمْرِ أو أغلبه فيه).
وقد أرشدَ القرآنُ الكريمُ في آياتٍ كثيرةٍ إلى هذا الأمرِ العقلي والفطري المُرتَكِزِ في جِبِلّةِ الإنسانِ, قالَ تعالى: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ))(43)النحل,.
فضلاً عن تأكيده وإرشاده إلى ضرورةِ التصدي للتفقهِ في الدِّينِ, وتحصيلِ العِلْمِ .
قال تعالى: ((وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ))(122)التوبة.
,وقد جَرى العُقلاءُ على ذلك عملاً وسُلُوكَا لأنَّ رجوعَ الجاهلِ إلى العالمِ هو أمرٌ ارتكازي, فطري وعقلائي، حاله حال رجوع كُلِّ مُحتاجٍ في صنعةٍ وفَنٍ إلى الخبيرِ بهما، ولم يَرد رَدعٌ مِن الشارعِ الحكيمِ عن هذا الجَري العَملي العقلائي, فيثبتُ من ذلك إمضاءُ الشارعِ له.
وكذلك جَرَتْ سيرةُ المُتَشَرِّعَةِ والمُتدينين على الرجوعِ إلى الفقهاءِ في تحصيلِ العِلْمِ والحُكْمِ في المَسائلِ الفرعيةِ للعَمَلِ به.
وأما الأدلّةُ الشرعيّةُ النقليةُ فهي كثيرَةٌ ومتواترةٌ ومُعتبرَةٌ سنداً ودلالةً ونذكرُ منها:
ما روي عن الإمام المهدي- عَجّلَ اللهُ فَرَجَه وسَهّلَ مَخرَجَه الشريف- وهو (ما رواه الثقةُ الصدوقُ في كَمالِ الدّينِ وتمامِ النِعمَةِ، والشيخ الطوسي في كتابِ الغَيبَةِ، والطبرسي في الاحتجاج، والكشي في رجاله بالسند الصحيح العالي، قال: سألتُ محمد بن عثمان العمري, رضوان الله عليه، أنْ يُوصِلَ لي كتاباً, قد سألتُ فيه عن مسائلَ أشكلتْ عَليَّ، فوردَ في التوقيعِ بخطِّ مَولانا صاحبِ الزمانِ عَليه السلامُ: (أما ما سألتَ عنه أرشدكَ اللهُ ووفقك) إلى أنْ قال: وأما الحوادثُ الواقعةُ، فارجعوا فيها إلى رواةِ حديثنا، فإنّهم حُجتي عليكم، وأنا حُجة اللهِ عليهم – والمُتبادرُ منه: الرجوعُ إلى رواياتهم، كما إذا قيل: ارجعوا في الدواءِ إلى الطبيبِ، أي إلى طبابته).
وفي هذه الروايةِ ظهورُ لوجوبِ الرجوعِ في حَالِ غيبته إلى العلماءِ والفقهاءِ القادرين على استنباطِ الأحكامِ الشرعيةِ مِن أدلتها الروائية التفصيليةِ – فارجعوا فيها إلى رواةِ حديثنا – والذين يتمكنون من الإفتاء بالحكم لكُلِّ واقعةٍ تُستَجَدُ، وقد جعلهم الإمامُ المهدي, عليه السلامُ، حُجّةً شرعيّةً علينا بوصفه حُجّة اللهِ الواجبةِ والمَنصوبة عقلاً, ومُقتضى الاعتقادِ بإمامته الحَقّةِ والإيمانِ بها والإذعانِ أنْ نُطيعَه فيما أمرَنا به وأرجعنَا إليه.

المراجع:
1- منهاج الصالحين السيد السيستاني ج1 ص5، مسألة 1
2- منهاج الصالحين السيد السيستاني ج1 ص5، مسألة 4.
3- الفتاوى الميسرة السيد السيستاني، ص17
4- القوانينُ المُحكَمَةُ في الأصولِ المُتقنةِ, المُحققُ الميرزا القُمي,ج4:3:,ص345,.
4-عَوائدُ الأيَامِ، المُحققُ النَراقي، ص442.

نشرت في الولاية العدد 111

 

مقالات ذات صله