سوسيولوجيا المنامات في مشهد أمير المؤمنين(عليه السلام) وإشكالية عمران بن شاهين

د. صادق المخزومي

ما أكثر المنامات والرؤى في قصص التاريخ الديني، وكم وصلت بين الحلقات المفقودة في تاريخ الإسلام، لا سيما أن مناسبات ظهورها على الأغلب تكون في العالم الغيبي، أي بعد الموت، وما أعظم الكرامات والمعجزات الناتجة عن المنامات والرؤى، وكم من فاعليّة وأثر كبيرين لها في نفوس المؤمنين بالدين ما دامت تسهم في تنمية عاطفة التدين، وتوصل الحلقات المفقودة في الحدث التاريخيّ، وتقرب دوائر الوصل بين المكلّف وبين من يقدّسه، وتعضّد بناء شخصيته العقديَّة، وقد تدعو المخالفين والمعاندين الى الالتحاق بأركان الهداية.

أما عند الشيعة الإماميّة فهي كثيرة الورود وعظيمة التجليَّات، صدحت بها مؤلفات العلماء، واختصت بها عنوانات نحو: «الأنوار العلوية» للشيخ جعفر النقدي (1370/1951)، وكتاب «دار السلام فيما يتعلق بالرؤى والمنام»(1)، للميرزا حسين النوري (1254-1320/ 1838- 1902)، وكتاب«حبل المتين في معجزات أمير المؤمنين» لمحمد الرضوي(بعد1135/ 1723)(2)، وكتاب «بحار الأنوار» للشيخ محمد باقر المجلسيّ(1111/1700)، وكتاب «مدينة المعاجز» للسيد هاشم البحراني(1107/ 1696).
إن المنامات- في أغلبها- هي نتاج الضغوط النفسيّة الشديدة في الحياة اليوميّة، ومحاولة التعبير عنها بصيغة تحوز قبوليَّة، وتسوِّغ له مشاعرَ مخالفة النظام الذي اصطحبها، سواء سياسيًا كان النظام أم اجتماعيًا أم دينيًا، وانَّها- تاليًا- محاولة لاشعوريّة لتخفيف الأزمة، وأحيانًا يخرج من المنام تصبغه صبغة البطولة.
لا شك بأنَّ الخوف من أقوى المشاعر المحركة للمنامات، لاسيما في مواجهة بيأة متسلطة، تشتمل على ألوان الضغط النفسي، فإن الليالي ستكون ولّادة للرؤى.
في سياق أمثلة عن المنامات، نقل العلامة عبد الكريم بن طاووس (693/ 1294) بعض المكرمات الصادرة عن المنامات بلفظ: حكي- أيضا- أن «عمران بن شاهين»(3) من أمراء أهل العراق، عصى على عضد الدولة فطلبه طلبًا حثيثًا، فهرب منه إلى المشهد متخفِّيًا، فرأى أمير المؤمنين- عليه السلام- في منامه، وهو يقول له: يا عمران، إنَّ في غدٍ يأتي «فناخسرو» إلى هاهنا، فيخرجون ممن بهذا المكان فتقف أنت هاهنا، وأشار إلى زاوية من زوايا القبَّة، فإنهم لا يرَونك، فسيدخل ويزور ويصلِّي، ويبتهل بالدعاء والقسم بمحمد وآله، أنْ يظفرَه بك، فادنُ منه وقل له: أيها الملك، من هذا الذي قد ألححت بالقسم بمحمد وآله أنْ يظفرك الله به؟ فسيقول: رجل شق عصاي ونازعني في ملكي وسلطاني. فقل له: ما لمن يظفرك به؟ سيقول: إنْ حتم عليَّ بالعفو عنه عفوت عنه؛ فأعلمه بنفسك فإنك تجد منه ما تريد، فكان كما قال له، فقال له: انا عمران بن شاهين. قال: من أوقفك ها هنا؟ قال له: هذا مولانا، قال لي في منامي: غدا يحضر «فناخسرو» إلى هاهنا، وأعاد عليه القول. فقال له: بحقِّه، قال لك فناخسرو؟ قلت: أي، وحقِّه، فقال عضد الدولة: ما عرف أحدٌ أنَّ اسمي فناخسرو إلا أمي والقابلة وأنا، ثم خلع عليه خلع الوزارة، وطلع من بين يديه إلى الكوفة. وكان عمران بن شاهين قد نذر عليه، أنَّه متى عفا عنه عضد الدولة أتى إلى زيارة أمير المؤمنين- عليه السلام- حافيًا حاسرا، فلما جنَّه الليل خرج من الكوفة وحده، فرأى جدِّي عليُّ بن طحال مولانا أمير المؤمنين- عليه السلام- في منامه وهو يقول له: اقعد، افتح- لوليي عمران ابن شاهين- البابَ، فقعد وفتح الباب وإذا بالشيخ قد أقبل فلما وصل قال: بسم الله يا مولانا، فقال: ومن أنا؟ فقال: عمران بن شاهين. قال: لست بعمران بن شاهين. فقال: بلَى، إنَّ أمير المؤمنين أتاني في منامي وقال لي: اقعد، افتح لوليِّ عمران بن شاهين. قال له: بحقِّه، هو قال لك؟! قال: أي، وحقِّه هو قال لي. فوقع على القبّة يقبّلها، وأحاله على ضامن السمك بستين دينارا، وكانت له زوارق تعمل في الماء في صيد السمك، أقول: وبنى الرواق المعروف برواق عمران في المشهدين الشريفين الغروي والحائري على مشرفهما السلام»(4).
يلحظ في هذه الحكاية: أنّها وظفت التاريخ ولاسيما منتصف القرن الرابع، وهو مشحون بالحوادث والصراعات في ضوء بسط البويهيين سلطتهم على دولة مترامية الأطراف، ومعطيات إشكاليّة الخلاف بين أبناء الجيل الثاني للأسرة البويهيّة الحاكمة. واضح أنّ أثافيَ القصة وأبطال الحكاية ثلاثةٌ من عِلْيَة قومهم ثُنِيَتْ لهم وِسادةُ السلطة وهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والسلطان عضد الدولة البويهيّ الذي حكم العراق بين (367-372/ 978-983) وعمران بن شاهين«ملك البطائح، الذي امتدت دولته أربعين سنة» بحسب الذهبيّ(5).
كان مسكويه (320-421/932- 1030) شاهد عيان على تاريخ البويهيين في عصرهم الأول، بخاصة تاريخ معز الدولة وعضد الدولة، إذ كان خازنا للأخير، يسايره في تنقلاته(6). أحصى تحركات عمران بن شاهين وردود فعل البويهيين عليها، منذ سنة (338/ 949) نشر سطوته في البطائح، وفي سنة (340/ 951) تمّ الصلح بين معزّ الدولة وبين عمران بن شاهين، وقلَّده معزّ الدولة البطائح(7)، وظلت حوادث الحرب والصلح تترى بين الطرفين حتى وفاة معز الدولة سنة (356/967)(8)، ولمّا تولّى السلطنة ابنه بختيار لقَّبَ عمران بن شاهين «معين الدولة»، واستمرت العلاقات بين بسط وقبض حتى توفي ركن الدولة سنة (366/ 977)(9)، فآلت رئاسة البيت البويهي إلى ابنه عضد الدولة، وانفتح الباب أمامه لانتزاع العراق من ابن عمه بختيار، فزحف إليه واشتعلت بينهما عدة معارك، انتهت لصالح عضد الدولة، وتمكن من القبض على بختيار وقتله في سنة (367/ 978)(10)، واستولى على ما تحت يديه، وأصبحت عاصمة الخلافة عاصمة لبني بويه؛ ومن ثم توجّه الى الموصل والجزيرة وبسط نفوذه، وأخضع مناوئيه، وعاد إلى مدينة السلام يوم السبت انسلاخ ذي القعدة سنة 368/ 979(11)، وما أنْ استقر ببغداد بأقل من شهرين، أُعلِن عن وفاة عمران بن شاهين، يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة (369/ 979)(12).
يجدر العلم بمن عاصر عضد الدولة من العلماء الذين عنوا بكتابة تاريخ الشيعة مثل: الشيخ الصدوق (381/ 992) والشيخ المفيد (413/ 1022) الذي كان صدر الشيعة في بغداد، وله حظوة كبيرة عنده، وقيل: له» صولة عظيمة بسبب عضد الدولة»(13)، وتهمّه كثيرا زيارة عضد الدولة هذه؛ وكذا الشيخ الطوسي الذي قطن النجف بين (448- 460/ 1056- 1067)، وأسس مدرستها وصنّف وأملى؛ ولم يذكر أحد منهم زيارة عضد الدولة وعمران بن شاهين، وما صاحبها من رؤى ومنامات. من المفيد أنْ حقق ابن طاووس موعد زيارة عضد الدولة، قال: «كانت زيارة عضد الدولة للمشهدين الشريفين الطاهرين الغروي والحائري في شهر جمادى الأولى سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة»(14) بيد أنّ الإشكالية تنجم هنا في أمرين: الأول، كيف تحققت زيارة عمران بن شاهين بعد سنتين من وفاته. الثاني، مركب الرؤى المناميّة، وأثره في تحقيق لقاء أشد خصمين متناوئين في الدولة، وفي نفس الوقت هما أهمّ شخصيّتين أسهما في بناء المشهد العلوي وإقامة أروقته في القرن (4هـ/ 10م).
لا شكَّ بأنَّ روايةً على سبيل الحكاية يرويها حفيد عليّ بن طحال عن جدّه لمدة تستغرق قرابة ثلاثمائة عام أمر يشف عن تفنيدها في باب محاكمة الرواية بتفعيل التاريخ في رحاب الجرح والتعديل؛ على أنّ هذا المعنى ليس من أهداف البحث، الا بقدر حجم تأثيرها على مجتمع المتلقين، وتغذية المخيال الشعبي للقبول بها عن قناعة.
كما أنّ هذه الرؤى حققت ما يعسر تحقيقه على أرض الواقع، فإنّ كلا طرفي الصراع متعنتٌ في نهجه، مستشرٍ في كيده خلال ثلث قرن من عسكرة المواجهة؛ فلو تأملنا في وصف مؤرخ البويهيين وخازن عضد الدولة مسكويه في وصف خَصِيم الدولة بقوله(15): «في سنة 369، توفى عمران بن شاهين صاحب البطيحة فجأةً، يوم الخميس لثلث عشرة ليلة بقيت من المحرم …، بعد أنْ نُصِبت له الأرصادُ أربعين سنة، وأنفقت على حروبه الحرائب، وبعد أن أذلّ الجبابرة، وأربابَ الدول، وطواهم أولًا أولًا، وقدّمهم أمامَه على غُصص يتجرعونها وذُحول يتحملونها، وهو ممنوع الحَرِيم محصّن السَّاحة محميٌّ من غوائلهم ومكايدهم»؛ فلم يرَ عمران نفسه الا ندًا، ولم يدخل في كنف رعويّة الدولة البويهيّة، حتى تنطبق مصاديق الرواية عليه بلفظ: «أن عمران بن شاهين من أمراء أهل العراق عصى على عضد الدولة، فطلبه طلبا حثيثا فهرب منه إلى المشهد متخفيا».
في ملحظ آخر، إنَّ عصر الرواية أواخر القرن (7هـ/ 13م) وهو زمن تشتت الدولة وتسلط المغول الذين اعتنقوا الإسلام توًّا، واختلاف الأمراء والزعماء القبليين وهم من أكثر الناس اعتقادا بالأسطورة والمنامات، حتى عضد الدولة نفسه كان يعتقد بها ويوظفها في تسيير نظامه بحسب التنوخي(16)؛ وعليه أنَّ مجتمعَ عُلِّيَّةِ الْقَوْمِ يكون في أمس الحاجة الى الرموز التأهيليّة الجاذبة والمتمثلة في القباب المقدسة. كما أن مجتمعات المشاهد المقدسة التالية حتى المعاصرة، بقيت تتوجس خيفة ممن يُحيطها من أعراب متعصِّبين وزعماء قبليّين حانقين، وتدخُّل دولٍ مريب؛ ومن مثل هذه الروايات تهدئ الروع الاجتماعيّ، مما يجعل آثارها تخلد في الذاكرة التاريخية للمجتمع، بخاصة إذا تدخلت فيها عوامل طقسيّة ترفع من معياريَّة القدسيّة.
في هذه الحكاية تطفق ثلاث رؤى مناميّة لكل من عضد الدولة وعمران بن شاهين وعلي بن طحال، والخيط الذي ينظمها هو حضور فاعل للإمام عليّ(عليه السلام) في السعي الى الصلح بين أعْتَى خصمين، والى نشر السلم بين أركان الدولة، يصدر من تحت قبّة أمير المؤمنين؛ له أثر بالغ في الوعي الاجتماعيّ، فلا غرو في مَنْ هو جدير بلقب «حماي الحمى» أن تظلّ عنايته ورعايته مستمرة لمريديه، ليس من طبقات الرعية فحسب بل حتى أعمدة الدولة، يمدّ لهم يد العون على نظم أمرهم، على سبيل إشاعة السلم في مجتمعهم.
نخلص في تحليل مسحيّ للنصوص الى أنّ ميثولوجيا المنامات وما أبرزته من كرامات تكاد تكون محفّزة لتنمية البُنْيَة الاجتماعيّة معززة لمكانتها القيميّة، تفرض مقوّمات الحفاظ على التعاون التقليديّ بين أفراد الجماعة وشدّ اللحمة الاجتماعيّة حول الرموز المقدسة، لما تتوافر عليه من معاني القدسية مثل الشفاعة والخلاص التي تتمحور حول كثرة الزيارات والدعاء، لكي لا تزل بهم قدم يوم القيامة، ما زالوا يهتدون بأعلام البيت النبويّ، ويسْرُون على ضوء منهاجهم؛ ولعلَّ من أبرز معالم شدّ البنية الاجتماعيّة عندما يتطلب الدفاع عن تلكم المقدسات، عسكريًا وفكريًا لكانت أجدر ما يمكن وإن كان حسبها أن تعيش بأمان في بحبوحة ما تعتقد به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- دار السلام، 4ج، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 2008.
2- ميرزا شمس الدين النقيب محمد بن مير محمود بن مير محمد بن مير يار، المنتهي نسبه إلى الإمام الرضا عليه السلام، من علماء الدولة الصفوية. ترجم له وذكر الكتاب: الأمين، أعيان الشيعة 10/ 56؛ آغا بزرك، الذريعة 4/172؛ الأنوار العلوية، ص 420.
3- ترجمته: مسكويه، تجارب الأمم 6 / 119؛ ابن الأثير، الكامل 8/481- 485، 489، 490؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء 16/267؛ أبو الفدا، المختصر في أخبار البشر 2/121؛ ابن خلدون، تاريخ العبر 3/423، 4/437، 505.
4- فرحة الغري، ص ص 168 – 170. ونقلها عنه: المجلسي، بحار الأنوار 43/319؛ الديلمي، ارشاد القلوب 2/438؛ النقدي: الأنوار العلوية، ص409؛ التميمي، محمد علي جعفر مدينة النجف، ص185؛ آل شبيب، تحسين، مرقد الإمام الحسين (ع)، ص150.
5- سير أعلام النبلاء 16/267. وقال مسكويه: أن نصبت له الأرصاد أربعين سنة. تجارب الأمم 6/446. وكلاهما أخطأ، والصواب «ثلاثين» سنة، لأنّ باكورة الأحداث هي بين (338- 369هـ).
6- انظر: تجارب الأمم 6/332، 442.
7- تجارب الأمم 6/ 177.
8- مسكويه، م. س. 6/269؛ ابن الوردي، التاريخ 1/282.
9- مسكويه، م. ن. 6/ 412؛ ابن الوردي، م.ن. 1/282.
10- مسكويه، م. ن. 6/ 416
11- تجارب الأمم 6/ 445.
12- مسكويه 6/446؛ الذهبي، سير أعلام 16/ 267؛ ابن الوردي 1/282.
13- الذهبي، ميزان الاعتدال 4/30.
14- فرحة الغري، ص155؛ انظر: الثقفي، الغارات 2/869.
15- تجارب الأمم 6/446 – 447.
16- التنوخي، نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، فصل «عضد الدولة وإيمانه بالمنامات « 4/118- 122.

نشرت في الولاية العدد 112

مقالات ذات صله