أنواعُ الاقتباسِ مِن القرآنِ الكَرِيم في أدعية الصحيفة السجادية

د. رفاه عبد الحسين الفتلاوي

إن القرآن يحمل قيمة معنوية عالية، وقداسة خطابية تعكس قداسة صاحب الكلمات وناقلها، فالتعامل مع آياته يخضع لقواعد وآداب، ومن هذا تَنوّعت طَرائقُ الاقتباسِ مِن القرآن الكريم في أدعية الصحيفة السجادية، مِنها ما كانَ اقتباساً لمفرَدَةٍ قرآنِيَّة، أو اقتباساً لآيَةٍ قرآنِيَّةٍ أو بَعضٍ منها, أو ما كان لِتَركيبٍ مِن مُفرَدَتَين أو اكثر أو ما يسمى( بالاقتباس المحوري)، كَما سَيتبَيَّن وفق التَّقسيماتِ، والتفريعاتِ الآتية :

أوَّلا – اقتباسُ المفرداتِ القُرآنيّة :
حَفلت نتاجات الأدباء بأنواعها بوجود الأثَر القرآني بصُوَرِه، أو تَراكِيبه، أو مَعانيه ، ابتغاءً لما يحمله من إفاضات دلالية، وفنيّة، لها قدرة البَث الدلالي ، والفنِّي . ولم يكن النصُّ الدعائي بَعيدا من ذلك، إذ دَخل كثيرٌ منه ضِمن دائرة(الاقتباس)القرآني سَواء أكان ذلك باقتباس المفردة، أم التركيب، فالنصُّ القرآني له حضوره، وتجلّى بمظاهر عدّة، يأتي في مقدمتها اقتباس المفردة القرآنية التي تبدو إشارة مُركَّزة لنصّ غائب قَد تَكفي المفردة لاستحضار فاعليته . وللمفردةِ أثرُها في بنية النصِّ وقيمته الدلالية مِن جِهة ؛ وفي نَفس المتلقي مِن جِهةٍ أخرى، و قد أدرك النقادُ والبلاغيون العرب القدامى هذا الأمر، فتناوله كثيراً منهم في باب(الفَصاحة). وهي أساس الصياغة الشكلية للمعاني والهيكل البنائي في العمل الأدبي، فالمعاني أفكارٌ مجرّدة تُخرجها المفرداتُ إلى عالم الوجود، وتَنتشلها من عالم المفاهيم إلى عالم المَصاديق، وليست كلّ مفردة تصلح للقيام بهذا الدور ما لَم يَتَصرف بها مبدعٌ له من القدرة والإبداع حظّ كبير، وما لَم تُوضَع بموجب تلك القدرة في سياقها الصحيح، فتختلق صُورا أدبية تُحقّق الإمتاع- ومن قبله الإفهام- للمتلقي، من هنا أخذت العناية بها – لاسيّما المفردة القرآنية – تزداد، وأُفرغت لها المؤلفاتُ المُتخَصِّصة عند النقاد المحدثين، بعد أن كانت تبحث في الكلام عن الفصاحة، والإعجاز، والسياق، والنَظم عند القدماء. ومن أمثلة ذلك نجد الإمام السجاد عليه السلام، يقول في دعائه في الاعتذار من تبعات العباد، ومن التقصير في حقوقهم وفي فكاك رقبته من النّار، فتضمن دعاؤه الاعترافات هذه، فابتدأ بالدعاء بحمد الله عز وجلّ و الثناء عليه، فقال عليه السلام: ((اَلْحَمْدُ للهِ الاوَّلِ بِلا أَوَّل كَانَ قَبْلَهُ، وَ الاخِر بِلاَ آخِر يَكُونُ بَعْدَهُ. الَّذِي قَصُرَتْ عَنْ رُؤْيَتِهِ أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ)), فقد اقتبس مفردة (أبصار) من قوله تعالى (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير)، الحمد لله الَّذي جعل الحمد مفتاحا لذكره، وخلق الأشياء كلَّها ناطقة بحمده وشكره، والصّلاة والسّلام على نبيّه محمّد المشتقّ اسمه من اسمه المحمود، وعلى آله الطاهرين أولي المحامد والمكارم والجود، فإذا ما رجعنا لدلالات كلّ عبارة نجدها متناسبة والسياق ورودها، فعلى سبيل المثال (الْحَمْدُ للهِ) الحمد: الثناء بالجميل على المحمود تبجيلاً له, وتعظيماً، و الثناء على الله بما هو أهل تفتتح به الأقوال، والأعمال (الاوَّلِ بِلا أَوَّل كَانَ قَبْلَهُ، وَ الاخِر بِلاَ آخِر يَكُونُ بَعْدَهُ) فالله سبحانه واجب الوجود لذاته؛ أي أنّه تعالى لا يزال موجوداً بلا علة لوجوده، وأنّه الموجود الأول بلا ابتداء ودائم الوجود بلا انتهاء, وأنّه المبدأ الأول لكل الموجودات, رؤية الخالق (الَّذِي قَصُرَتْ عَنْ رُؤْيَتِهِ أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ), الوهم الخيال, والتصور, ومهما سمت العقول فإنها تنتهي إلى حدٍ معين والمخلوق المحمود لا يحيط بالخالق المطلق الذي لا ينتهي إلى حدٍ معين, ومن أمثلة ذلك قوله في دعائه في اعترافه بالتقصير عن تأدية الشكر ((اللّهمّ إنّ أحدا لا يبلغ من شكرك غاية إلا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكرا ولا يبلغ مبلغا من طاعتك وان اجتهد إلا كان مقصّرا دون استحقاقك بفضلك فاشكر عبادك عاجز عن شكرك واعبدهم مقصّر عن طاعتك لا يجب لأحد ان تغفر له باستحقاقه ولا ان ترضى عنه باستيجابة فمن غفرت له فبطولك ومن رضيت عنه فبفضلك)), نجد أنّ الإمام قد اقتبس مفردة (شكرا) من قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لله وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُر…) ومقصده فيه اللّهمّ إن أحدا لا يبلغ من شكرك غاية إلا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكرا، ولا يبلغ مبلغا من طاعتك، وإن اجتهد إلا كان مقصّرا دون استحقاقك بفضلك، فإنّ أكثر عبادك شكراً عاجز عن إيفاءك حقك من الشكر، وأعبدهم كان مقصّراً عن طاعتك لا يجب لأحد أن تغفر له باستحقاقه، ولا أن ترضى عنه بإجابته، فمن غفرت له فبطولك، ومن رضيت عنه فبفضلك(1). وفي معنى قوله (ما يلزمه شكرا) روي أنّه تعالى أوحى إلى موسى بن عمران يا موسى أشكرني حق شكري, قال كيف أشكرك يا ربّ حق شكرك وأشكر على كلِّ نعمةٍ تستحق مني الشكر عليها فأوحى الله إليه الآن شكرتني حق شكري حيث اعترفت بعجزك. وفي بيان معنى قوله عليه السلام (بفضلك) يجوز تعلقه بقوله يبلغ و بقوله اجتهد ؛ لإفادة أنّ بلوغه المبلغ من طاعتك واجتهاده في تلك الطاعة إنّما هو سبب فضلك عليه وتوفيقك له, ويجوز تعلقه بالاستحقاق يعني أن استحقاقك الشكر منه إنما هو سبب تفضلك عليه, ويجوز تعلقه بمقصر بمعنى أن تقصر مع جده واجتهاده في الشكر إنما هو سبب توفير نعمتك عليه إذ لو كانت قليلة لا يمكنه الشكر بإزائها .

ثانيا: اقتباسُ الُجملةِ القرآنية المُباشِر:
هو ما لا ينُقل فيه اللفظ المقتبس عن معناه الأصلي إلى معنى آخر، وهو النمط الذي يُعمدُ فيه إلى الحفاظ على الشكل البنائي للنص القرآني، لأنَّ هذا النمط يتم عادته بالنقل الحرفي له، ويكاد يخرج من دائرة التناص إلى دائرة التنصيص، كما يُمثّل النص القرآني المباشر مرجعية فنية، فكرية، ثقافية عند الخطيب، والشاعر، على حَدّ سواء لاسيّما في عصر صدر الإسلام، ومن أرضيته الصلبة ينطلق الناثر والشاعر للتعبير عمّا ينبغي وليرفد نصه بأدبية النص القرآني العالية، وبما يحمله من دلالات وجمالية، وتأثير في نفوس المتلقين؛ ليحقق لهم عنصري الإفهام والإمتاع وسُميّ الاقتباس المباشر بالاقتباس النصي، أو الحَرفي؛ تمييزا له عن الاقتباس غير المباشر الذي عُرِف بالاقتباس الإشاري أو الدلالي، وعُرِف الأولُّ بالظاهر تمييزا له عن الكامن، أو هو اقتباس الصياغة ؛ تفريقا له عن اقتباس المعاني، وتارة يُدعى بالتأثر الكلي مقابلا للتأثر المعنوي، ويُدعى بالاقتباس اللفظي تفريقا له عن المعنوي ومن مصاديق ذلك نجد الامام السجاد في دعائه في وداع شهر رمضان، يقول: ((أنت الذي فتحت لعبادك بابا إلى عفوك وسميته التوبة، وجعلت على ذلك الباب دليلا من وحيك لئلا يضلوا عنه، فقلت تبارك اسمك: «توبوا إلى الله توبة نصوحا».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين (عليه السلام),السيد علي خان المدني الشيرازي ,ج 5,ص138.

نشرت في الولاية العدد 112

مقالات ذات صله