البناء الحضاري والوعي الانساني

شاكر القزويني

ان عملية البناء وفي أي مستوى وشكل لا بد ان تبدأ ببناء الذات ، وبما ان الذات الانسانية خاضعة لمؤثرات لا تعد ولا تحصى ، بسبب قاعدة الحياة التي تخضع لواقع متغير بشكل مستمر ومتقلب بين حين وآخر .. فتصبح هنا شخصية الفرد الانسانية وفق هذه المتغيرات بين ضعف وقوة حين تسعى لرسم صورة الواقع وملامحه فتكون الصورة التاريخية مكتملة .

الخصوصية الثقافية ونتاج الذات
فالمرء جزء من العالم ، حي ، يستطيع التأثير فيه ، كما يتأثر هو ، لكن سيكون هذا التأثر والتغيير بحدود معينة دون الولوج الى عمق الخصوصية الثقافية التي كان قد انصهر بها الفرد ، لأن عملية سلخ هذه الهوية الخاصة تبدو كسلخ جلده وهو حي .
لذا فان مكان البناء الحقيقي يأتي من هذا التفاعل العميق بين هذه القوة الداخلية التي كانت نتاجا للذات ومتغيراتها خالقة طاقة الوعي البناء فضلا عن قوة الارادة الموجهة نحو الهدف المنشود . والذي يبدأ حتما بالمجتمع الأصلي ثم يمد هذا البناء نحو العالم برمته، ودون هذه الطاقة الواعية يصبح الفرد مجرد حجر عثرة في عملية الانجاز الفاعل في الحياة، وهنا سنخلص الى ان فقدان الانسان للمعرفة ليس مؤداه الا للسقوط في هاوية الفراغ والتيه، التي لا تودي الا الى العدم والضياع .
مراحل التاريخ والمزايا الحاضرة
ان صور واشكال الضياع الانساني تنعكس على المجتمع بشكل واضح ، بتأثيرات تتخذ اشكالا عدة ، أقل ما يقال عنها انها سلبية ، تظهر جلية آنفا ، أما المنجز الانساني الواعي بكل اشكاله المبني على ثوابت القيم السليمة الصالحة فسيكون هو الشكل الواضح الحي في أرض الواقع خلال مرحلته التاريخية ، تلك التي ستتضح فيها اسهامات الفرد فضلا عن ملامح تلك الفترة ومزاياها ، فهي المرحلة الأكثر بروزا وتجليا في الحياة ، وما عدى ذلك فهو ضائع متهاوٍ ومنسي ليختفي بصورة سريعة .
لذا فان السلوك الانساني داخل المجتمع يجب ان يكون واعيا وموجها عن قصد ودراسة ودراية ، منطلقا من ثقافة الفرد والمجتمع دون تشويه وانحراف او ايغال في الابتعاد عنها بدواع لا اساس لها من الصحة ولا عذر ، فالحفاظ على الاصالة انتماء لمنظومة الوعي الحضاري التي لها القدرة على المشاركة في البناء الذي يسهم في تطور العالم ووضعه بشكل جيد وواقع افضل ، وهنا سيتحقق حتما ذلك التلاقح الحضاري والتحاور الايجابي ، دون صراعات وضياع للجهود والقوى الخيرة .
طمس الهوية حرب معلنة
ومن هنا يكون المد الثقافي الغربي والأجنبي على الأمم والشعوب هو عملية طمس للهوية والثقافة الخاصة لتلك الشعوب وتشويه لمعالمها الفكرية والعقائدية ، ما يجعلها ضعيفة مهزوزة لا ارادة لها أمام تدفق تلك الموجات الغازية والتي تتزاحم خلفها الشعوب المستهدفة محاكاة وتقليدا أجوفا ورغبة هوجاء واهمة بالرغبة بالتقدم السريع وفق هذه السبل التي لن تحقق سوى ضياع للطاقات الواعدة ووعدٍ شيطانيٍّ لسلب القيم واسباب الوجود التاريخي المتأصل بها للقضاء على هذه الشعوب، التي رسم لها الا ان تكون تابعا ضئيلا محكوما مسلوب الثروة والارادة .
لذا فان الوعي والثبات على الايمان والتمسك بقيم الفضيلة والصلاح هي من ستوفر الارادة لصد هذه الهجمات الثقافية الموجهة نحونا وهي السلاح الذي سيمنح الفرد والمجتمع الارادة لبناء مستقبل زاهر يلبي الحاجة ويمنح القوة والفخر .
الاغتراب الثقافي باب أوسع للضياع
ومن هنا فان الاغتراب الثقافي والأدبي هو أحد هذه الأبواب وأهمها، لأنه سيوجه ماسورة السلاح نحو الرأس ، أي لب المجتمع وقادة فكره وصناع القرار فيه ، وان الدعم اللامحدود الذي فتح على مصراعيه نحو هذا الاتجاه لم يأت حبا بالآداب الأجنبية وطرائقها ، بل لغرض في نفس يعقوب.
لا اعني حتما ان كل أجنبي شر مطلق ، فلا ننكر ما وصل اليه العالم من تطور نحن تخلفنا عنه كثيرا ، وأبعدنا عنه أكثر ، ما أعنيه تحديدا ما يتعلق بحاملي شعار صراع الحضارات وهؤلاء الذين لم يعودوا يضعون اقنعة الأنسنة والملامح الودودة كي يجوسوا في ازقتنا وبيوتنا وافكارنا واحاسيسنا .. أولئك الذين نزعوا كل الأقنعة وأصبحوا يضربون بالصميم ومن كل حدب وصوب ، انهم ينهشون بلحمنا وارضنا وبهويتنا محاولين الوصول الى معتقداتنا وقيمنا التي ابقتنا الى هذا اليوم أسوياء عقلاء منصفين نخشى الله تعالى ، من هنا يصبح الواجب مضاعفا على المفكر والأديب والباحث فضلا عن عالم الدين وطلابه ، في ترصين بناء الذات المعرفية الواعية وترسيخ الهوية الاسلامية المحمدية المهدية بنهج آل بيت النبوة صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين وهي تمنح سبلها الانسانية للعالم أجمع ، ويكون لم شتات الانسان وإعادة ترميم هويته المهشمة والمهمشة هدفا أوليا في الحياة ورفدها بكل وسائل الوعي المعرفي السليم من خلال الضغط على منابعها مؤسساتيا وفكريا وثقافيا وغيرها من السبل ، وجعل الإصلاح التربوي والتعليمي في مقدمة أوليات الحياة عندنا ، لتصبح لنا القدرة على الانتماء لمنظومة الوعي الحضاري التي لها القدرة على البناء الحقيقي ، البناء الحضاري الذي يسهم في بناء العالم أجمع.

نشرت في الولاية العدد 112

مقالات ذات صله