الصحيفة السجادية … أهميتها ومميزاتها

أ.م.د خليل خلف بشير

من المحقّق أن أول من ألّف ودوّن في دنيا الإسلام هم أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، والعلماء العظام من شيعتهم، فهم الروّاد الأوائل الذين خطّطوا مسيرة الأمة الثقافية وفجّروا ينابيع العلم والحكمة في الأرض، ومن الجدير بالذكر أنّ مؤلفاتهم، وسائر بحوثهم لم تقتصر على علم خاص، وإنّما تناولت جميع أنواع العلوم كعلم الفقه، والتفسير، والحديث، والأصول، وعلم النحو، والكلام، والفلسفة، بالإضافة إلى وضعهم لقواعد الأخلاق، وآداب السلوك، وأصول التربية.. وكان أول من سبق في هذا المضمار عملاق هذه الأمة، ورائد نهضتها الفكرية والعلمية الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، فهو الذي فتق أبواب العلوم العقلية والنقلية وأسّس أصولها، وقواعدها، يقول العقاد: ((إن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد فتق أبواب إثنين وثلاثين علماً، فوضع قواعدها، وأرسى أصولها)) ويقول ابن شهر آشوب: (( الصحيح أن أول من صنف هو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم سلمان، ثم أبو ذر، ثم الأصبغ بن نباتة، ثم عبيد الله بن أبي رافع، ثم صنّفت الصحيفة الكاملة)).
وممن ألّف من الأئمة الطاهرين الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فقد كانت مؤلفاته نموذجاً رائعاً لتطور الفكر الإسلامي، وتقدم الحركة الثقافية والعلمية، ومن مؤلفاته القيمة: الصحيفة السجادية التي هي من ذخائر التراث الإسلامي، ومن مناجم كتب البلاغة والتربية والأخلاق، والأدب في الإسلام، ونظراً لأهميتها البالغة فقد سمّاها كبار رجال الفكر والعلم، بأخت القرآن، وإنجيل أهل البيت، وزبور آل محمد.
ومما زاد في أهميتها أنها جاءت في عصر طغت فيه الأحداث الرهيبة، والمشاكل السياسية القائمة على حياة المسلمين فأحالتها إلى سحب مظلمة ليس فيها أي بصيص من نور الإسلام وهديه وإشراقه، فقد انشغل المسلمون بالتكتل الحزبي والسياسي، سعياً وراء مصالحهم وأطماعهم، ولم يعد هناك أي ظل لروحانية الإسلام وتعاليمه، وآدابه، وحكمه.
لقد فتحت الصحيفة السجادية آفاقاً جديدة للوعي الديني، لم يكن المسلمون يعرفونه من ذي قبل، فقد دعت إلى التبتـل وصفاء الروح، وطهارة النفس والتجرّد من الأنانية، والجشع، والطمع، وغير ذلك من النزعات الشريرة، وكذا دعت إلى الاتصال بالله تعالى خالق الكون، وواهب الحياة الذي هو مصدر الفيض والخير لجميع الكائنات. وتمتاز الصحيفة السجادية بل وغيرها من سائر أدعيته عليه السلام بأمور بالغة الأهمية كان من بينها ما يأتي:
1- إنها تمثّل التجرّد التام من عالم المادة، والانقطاع الكامل إلى الله تعالى والاعتصام به هو أثمن ما في الحياة.
2- إنها كشفت عن كمال معرفة الإمام (عليه السلام) بالله تعالى، وعميق إيمانه به، ولم يكن ذلك ناشئاً عن عاطفة أو تقليد، وإنّما كان ذلك قائماً على العلم والعرفان وقد أدل (عليه السلام) في صحيفته بكثير من البحوث الكلامية انتهل منها علماء الكلام والفلاسفة المسلمون فيما كتبوه عن واجب الوجود.
3- إنها احتوت على كمال الخضوع والتذلّل أمام الله تعالى، وبذلك قد امتازت على بقية أدعية الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، قال الفاضل الإصفهاني في ديباجة صحيفته: ((إن أدعية مولانا زين العابدين(عليه السلام) على كثرتها قد امتازت عن أدعية باقي المعصومين(عليهم السلام) بما فيها من أفانين التضرّعات، وإظهار التذلّل والمسكنة لله تعالى مما ليس في غيرها… إن الله تعالى قد خصّ كلَّ واحد منهم بمزية وخصوصية لا توجد في غيره كالشجاعة في أمير المؤمنين(عليه السلام) وابنه الحسين(عليه السلام) والرقة والتفجّع في أدعية زين العابدين(عليه السلام) لا سيّما أدعية الصحيفة الكاملة)).
4- إنها فتحت أبواب الأمل والرجاء برحمة الله التي وسعت كل شيء فإن الإنسان مهما كثرت ذنوبه وخطاياه لا ينبغي له أن يقنط من رحمة الله تعالى، وعفوه وكرمه، وكثير من أدعية الإمام(عليه السلام) تفيض بالرجاء الذي يملأ النفس إشراقاً وطمعاً وثقة بعفو الله ومغفرته.
5- إنها فتحت للمناظرات البديعة مع الله تعالى، وهي مليئة بالحجج البالغة في طلب العفو منه تعالى.
6- إن أكثر أدعية الصحيفة قد وضعت برامج للأخلاق الروحية التي يسمو بها الإنسان، كما رسمت آداب السلوك، وأصول الفضائل النفسية.
7- إنها احتوت على حقائق علمية لم تكن معروفة في عصره، نذكر منها على سبيل المثال قوله(عليه السلام) في الدعاء على أعداء المسلمين: (اللهم وامزج مياههم بالوباء، وأطعمتهم بالأدواء..)، فقد أشار الإمام(عليه السلام) إلى حقيقة علمية اكتشفت في العصور الأخيرة، وهي أن جراثيم الوباء المعروفة (بالكوليرا) إنما تأتي عن طريق الماء، فهو الذي يتلوث بجراثيمها، وبه يصاب من يشربه، كما أن جراثيم هذا الوباء تنتقل إلى الأطعمة فإذا أكلها الإنسان وهي ملوثة بتلك الجراثيم فإنه يصاب بهذا الداء حتماً فالإصابة بهذا الداء الخطير تأتي من طريق الماء والطعام، ولم تعرف هذه الحقيقة إلا في هذا العصر.
8- إنها من أهم الأرصدة الروحية والأخلاقية في الفكر الإسلامي فهي بلسم للنفوس الحائرة، ومنهل عذب، يرتوي منها المنيبون والمتّقون وهي تمثل فلسفة الدعاء الذي هو معراج المؤمن إلى الله، والبالغ به إلى أرقى مراتب الكمال، إذ ليس شيء في هذه الحياة ما هو أسمى من الاتصال بالله تعالى خالق الكون، وواهب الحياة.
إن النفوس الحائرة تجد في الدعاء ضالتها المنشودة، فإنها تشعر بالطمأنينة بعد القلق، وبالأمل بعد القنوط، وبالرجاء بعد اليأس.. إن الدعاء الخالص ليسمو بالإنسان إلى مستوى سحيق ماله من قرار، إن هذه الفلسفة المشرقة من الدعاء قد احتوت عليها – بوضوح – الصحيفة السجادية الخالدة.
9- إن الصحيفة السجادية كانت ثورة على الفساد، والتسيّب والانحلال الذي ساد في ذلك العصر بسبب السياسة الأموية التي أشاعت الفساد والمجون والتحلّل بين المسلمين، وجمّدت طاقات الإسلام، فلم ير لها أي ظل على واقع الحياة.
10- لقد كانت الصحيفة السجادية بما تحمل من بنود مشرقة في عالم الفكر والحياة ثورة على الجمود والانحطاط والتخلّف الذي كان من سمات الحكم الأموي.
11- إنّها بلغت أرقى مراتب البلاغة والفصاحة، فلا يوجد كلامً عربيً بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة ما هو أبلغ وأفصح من أدعية الإمام زين العابدين(عليه السلام)، وقد كان البارز فيها جمال الأسلوب، وبداعة الديباجة، ورقة الألفاظ، فلم يستعمل الإمام الكلمة إلا بعد أن تجمع مقاييس الجمال.
12- إن للصحيفة السجادية من الخصائص البلاغية، والمميزات الأدبية ما يعرفها، ويثمنها أهل الاختصاص من علماء البلاغة، وقد علّق الدكتور حسين علي محفوظ عليها وعلى سائر أدعية أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، بقوله: وعلى الرغم من أنه – أي الدعاء المأثور عن الأئمة عليهم السلام – نثر فني رائع، وأسلوب ناصع من أجناس المنثور، ونمط بديع من أفانين التعبير، وطرق بارعة من أنواع البيان، ومسلك معجب من فنون الكلام والحق إن ذلك النهج العبقري المعجز من بلاغات النبي(ص) وأهل البيت(عليهم السلام) التي لم يرق إليها غير طيرهم، ولم تسم إليها سوى أقلامهم فالدعاء أدب جميل، وحديث مبارك، ولغة غنية، ودين قيم، وبلاغة عبقرية، إلهية المسحة، نبوية العبقة..)) وكان من مظاهر الروعة والبلاغة في أدعية الإمام (عليه السلام) الإطناب في وصف الجنة، وما فيها من النعم والترف، والقصور الجميلة، والسبب في ذلك تشويق الناس، وترغيبهم بأعمال البر والخير لينالوا الجنة، ويفوزوا بنعيمها، كما أطنب الإمام (عليه السلام) في التهويل من أمر النار، وقساوة العذاب، وذلك لزجر الناس عن اقتراف الموبقات، وإبعادهم عن ارتكاب الجرائم والمنكرات وقد جارى الإمام بذلك القرآن الكريم الذي أطنب في كثير من آياته في وصف الجنة والنار، وذلك للأسباب التي ألمحنا إليها، وقد نصّ علماء البلاغة، على أن الإطناب في ذلك من أرقى مراتب البلاغة، ومن أروع صورها.

مقالات ذات صله