الشعر في حاضرة الحيرة

مريم رزوقي وليد

كانت الحيرة ملتقى الأدباء والشعراء من الحجاز واليمامة ونجد والبحرين والعراق فقصدوا بلاطها، فكان منتدى أدبياً وثقافياً تباروا فيه بقصائدهم وأشعارهم لكسب ود الملك والتقرب إليه ومنادمته، وكان لملوك الحيرة اهتمام كبير بالأدب واللغة فسمعوه ودونوه، وكانوا يعقدون جلسات شعرية يتخللها الحوار وتبادل الانطباعات حول الشعر والشعراء.

فهذا النعمان بن المنذر يتحدث إلى الشاعر الأعشى ميمون بن قيس بقوله : لعلك تستعين على شعرك هذا، فقال له الاعشى : احبسني في بيت عندك حتى أقول، فحبسه فقال قصيدته التي أولها :
أأزمعـت مــن آل ليلى ابتكـــاراً          وشطت على ذي هوى ان تزارا
وفيها يقول :
فما انا أم ما انتحالي القوا               في بعد المشيب كفى ذاك عارا
وقيدني الشعر في بيته                   كما قيد الاسرات الحمارا
ونستدل من ذلك ان بعض ملوك الحيرة كان لهم الاطلاع الواسع في مجال الشعر وأوزانه وتنههم إلى مسألة سرقة الشعر ونسبه .
وقد وفد إلى الحيرة جملة من الشعراء ومن أشهرهم المتلمس وطرفة بن العبد وفدا في زمن ملكها عمرو بن المنذر (ابن هند) فقربهم إليه وضمهما إلى حاشيته فجعلهما من صحابة أخيه قابوس، وكان يرشحه للملك وأمرهم بلازمته، ويبدو انهما لم يحسنا صحبته فاغضبا الملك فكتب إلى عامله على البحرين يأمره بقتلهما فدفع إلى كل منها صحيفة إلا ان المتلمس وقف على ما فيها فالقاها في نهر الحيرة ,
القيتها بالثني من جنب كافر             كذلك افني كل قط مظللي
رضيت لها بالماء لما رأيتها                يجول بها التيار في كل جدول
ثم هرب إلى الشام، أما طرفة فأبى ان يطلع على ما في صحيفته وذهب إلى البحرين وهناك لقي حتفه ، ويذكر ان لطرفة شعراً قد هجا به الملك عمرو بن المنذر، قال فيه :
فليت لنا، مكان الملك عمرو         رغوثاً حول قبتنا تخور
لعمرك ان قابوس بن هند             ليخلط ملكه نوك كثير
ومن الشعراء الذين وفدوا إلى الحيرة كذلك عبيد ابن الابرص بن عوف وكان شاعراً جاهلياً قتله المنذر بن امرؤ القيس (ابن ماء السماء) في يوم بؤسه فقد كان يقتل في ذلك اليوم كل من يراه، فلما طلع عليه عبيد، قال المنذر (من هذا الشقي) فقيل له عبيد بن الابرص فقال (إلا كان لغيرك يا عبيد) فلما دعا به المنذر ليقتله انشأ يقول :
أوصي بني وأعمامهم          بان المنايا لهم راصدة
لها مدة فنفوس العباد          إليها وان جهدوا قاصدة
فقتله المنذر ولطئخ بدمه الغريين .
وكان للنابغة الذبياني منزلة حسده عليها مقربوا الملك فنالوا منه ووشوا به لدى النعمان بن المنذر حتى تغير عليه وهم بقتله إلا انه ظل في بلاط الغساسنة يبعث بقصائده إلى النعمان ويعتذر فيها وأشهر هذه الاعتذاريات التي مطلعها:
يا دار مية بالعلياء فالسند         أقوت وطال عليها سالف الأبد
وقد مدح النابغة ملوك الحيرة لاسيما النعمان بن المنذر قصائد عدة ومن جملة ما قاله في مدح النعمان:
ألم تر ان الله أعطاك سورة        ترى كل ملك دونها يتذبذب
فإنك شمس والملوك كواكب     إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
ومن شعراء الحيرة عدي بن زيد العبادي الذي نال حظوة لدى المناذرة وكان من عائلة مسيحية تجيد القراءة والكتابة فكان من الكتاب البارعين فحذق في العربية وتعلم الفارسية ثم عين مترجماً في البلاط الفارسي، ولم يزل في عمله هذا حتى افترى عليه النعمان فاغتاظ منه وأرسل بطلبه فلما ورد إليه حبسه ومن ثم قتله .
ومن جملة قصائده التي نظمها وهو في الحبس معاتباً النعمان بن المنذر هي القصيدة التي قال فيها
أبلغ النعمان عني مالكاً           أنه قد طال حبسي وانتظاري
لو بغير الماء حلقي شرق        كنت كالغصان بالماء اعتصاري
ومن أشعاره التي قالها في الوعظ والحكمة :
أيها الشامت المعير بالـ                 دهر أأنت المبرئ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الـ           أيام كيل أنت جاهل مغرور
أين كسرى، كسرى الملوك أنو       شروان أم اين قبله سابور
وبنو الاصفر الملوك، ملوك الـ           روم لم يبق منهم مذكور
ويبدو ان قدوم الشعراء إلى الحيرة لم يكن للكسب المادي بقدر ما يرتبط بطبيعة العلاقة بين ملوك الحيرة والقبائل العربية، فمنها كمن كان موالياً وشاعرها يمثلها ويكون لسان قبيلته في بلاط الحيرة مادحاً لملوكها، وفي بعض الأحيان تقتضي المصلحة السياسية لملوك الحيرة ان تقرب بعض الشعراء وتغدق عليهم الهبات والعطايا استرضاء السادات بعض هذه القبائل ويعملون في الوقت نفسه على نشر الدعاية للمناذرة بين القبائل وينوهون بمآثرهم في تلك المناطق الواسعة من جزيرة العرب .
أما القبائل الأخرى فيبدو عدم الولاء هذا بهجاء شعرائها المناذرة مدافعين عن قبائلهم ثائرين على الظلم فهذا الأخنس بن شهاب يصور سيطرة اللخميين على مناطق نفوذهم في أرض العرب حيث تجبى إليه ثمراتها من الضرائب والمكوس، ولا يرد لقائلها قول بل إذا قال قائلهم أصبح واجباً مقضياً ، وقد عبر عن ذلك بقوله :
ولخم ملوك الناس يجبى اليهم       إذا قال منهم قائل فهو واجب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– الدجيلي، عبد الحميد أفندي، الحيرة وشعراؤها، مجلة الاعتدال، ، ص82.
2 – ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص 115.
3 – الزوزني : شرح الاشعار العشرة، ص85 – ص87 .
4 – ديوان عبيد بن الابرص، ،ص27.
5 – الأصفهاني، الأغاني، 2/89 وما بعدها .
6 – الضبي، المفضليات، ص206 .

نشرت في الولاية العدد 114

مقالات ذات صله