الواقع .. وانعكاساته التعبيرية لعصور تاريخ الفن

د. احمد عبيد كاظم

يتناول الواقع البيئة الطبيعية والفلسفة السائدة في الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي, ومن خلال الدراسات الانثربولوجية نجد أن سعي الإنسان الدائم للظفر بالأشياء الجديدة دافعة إلى إيجاد متحولات جوهرية تعود مرجعياتها لأسباب ذاتية أو بيئية تعمل على تحفيز أفكار الإنسان فالتأثير المحفز لأشكال الصخور على مخيلة الإنسان القديم يظهر في المجموعة الهائلة من صور حيوان البايزون, التي جاءت متلائمة مع طبوغرافية الصخور بما فيها من عدم انتظام وخشونة وتحدبات ومما يلاحظ في تلك الرسوم أنها تحاكي المفردة الواقعية فيما يخص الفرائس ألا أنها تميل للتجريد والاختزال عند التعبير عن الشكل البشري.

بلاد النهرين والمصريين وايطاليا
والتجربة الجمالية للمصرين القدماء وفي عصر (إخناتون) وهو عصر الدولة الحديثة بالنسبة للحضارة المصرية القديمة, قد سار بالاتجاه الواقعي البسيط, وكان رأي عالم الآثار (أرمانA.ERMAN ) أن (اخناتون لم يكن يُرسم في مظاهر أبهة الملوك السابقين حيث كانت لهم صفة الإلوهية, بل كان يرسم في صورة إنسان عادي ), كذلك في مجال فن النحت, مثل تمثال الكاتب الذي يجلس جلسة (القرفصاء) اتجاه واقعي بسيط غاية في الجمال والروعة فكانت فلسفة الفن في الحضارة المصرية القديمة قائمة على أساسين هما:
1-ميتافيزيقي يمتد إلى ما بعد الطبيعة, ويتعلق بمسألة الخلود.
2-التجسيد الإنساني القائم على أسس موضوعية من قبل الكهنة (رجال الدين).
والتجربة الجمالية لبلاد ما بين النهرين, فمادة الطين المتواجدة في البيئة الطبيعية تعد المادة الأساس للعمارة السومرية وفنونها كما اشتهر السومريون بمهارتهم بالفنون بوجه عام والنحت على وجه الخصوص وكان أقدم نحاتيهم تجريديين وانطباعين وكانوا من أمهر المصممين, إذ جمعوا بين الكتابة والصورة في أعمالهم الفنية, فكان لكل صورة رمز معين, كما إن اختراعهم للكتابة المسمارية عدَّ الشرارة الأولى لظهور فن التيبوغرافيا فيما بعد. والتجربة الجمالية في بلاد اليونان تجلت في السمات الواقعية والفردية والانفعالية, وتحول الاهتمام من النموذج إلى ما هو جزئي ومن التركيز إلى التمايز, ومن التقليد إلى الانطلاق, وفي مجال الفنون البصرية ازداد الاهتمام بالحجم والمنظور والتشريح, والتجربة الجمالية والفنية في عصر النهضة في ايطاليا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر, حيث تحررت ايطاليا من الحكم الروماني بعد سقوط الإمبراطورية الشرقية, واستتباب الأمن في الأقاليم الايطالية, إذ كان مركز النشاط مدينة فلورنسا التي كان يحكمها عائلة (ميد تشيMEDICI) وعلى رأسها لورنزو (1448-1492) الذي كان محبا للعلوم والآداب والفلسفة والفن, متأثراً بالثقافة الإغريقية التي تقضي بتهذيب البشر والارتقاء بهم بمقتضى قوانين الطبيعة, كما انتقل الاهتمام بالأشكال الطبيعية بقوة عبقرية ناضجة, ثم انتقل الاهتمام إلى الأشياء ذاتها أي أشكالها بنيتها فأتقن التشريح والنظريات الفنية المبنية على التجربة والمنطق, وهكذا اقترب الفن من الواقع الصرف وسمي هذا الاتجاه بالواقعية (REALISME) ومن الأشياء التي ميزت عصر النهضة حركة التمدن أو فصل الدين عن الدولة (SECULARISM) وهو التعبير الذي استخدم لوصف في المواقف في مرحلة الانتقال التدريجي التي مرت بها الشعوب الأوربية من مرحلة العصور الوسطى إلى مرحلة عالم عصر النهضة.
عصر النهضة
كان التحول في أسلوب الحياة ففي العصور الوسطى بالاتجاه والتركيز على ولوج الإنسان في طبيعته التي ينتمي إليها ومجتمع حرفته ونقابته التي تدافع عنه عند الضرورة , إذ إن الأعمال العظيمة التي أنجزت في العصور الوسطى ومجالات العمارة والنحت والتصوير والآداب كانت إنتاج أفراد مجهولين لم تعرف أسماؤهم, وقاموا بعملهم في صمت من اجل العقيدة الدينية ووصاية الرهبان أصحاب المال والورش الحرفية والصناعية والمقاطعات الزراعية, في حين نجد الفنانين في عصر النهضة كانوا يوقعون على إنتاجهم الفني بل مطورا طرزا فنيه خاصة بهم للتعبير عن هويتهم وذاتيتهم. ومن الأمور التي مكنت حكام المماليك الأوربية من السيطرة على الحكم, تشجيعهم للتجارة والصناعة لزيادة ثروة مماليكهم ونظموا التعريفات الجمركية على البضائع الأجنبية لحماية الصناعات والتجارة المحلية, والتقليل من الضرائب لانتعاش الاقتصاد, فزادة قوة الملك والعائلة المالكة, كما في فرنسا وانجلترا واسبانيا, وألمانيا وهولندا وسويسرا, وفي نهاية القرن الخامس عشر بدأ الأدباء والكتاب الايطاليون كتابة أبحاثهم في المجالات المختلفة وبخاصة حول السياسة وأبرزهم الكاتب الفلورنسي نيكولا ميكافيلي (1469-1527) ففي كتابه بعنوان (الأمير) سنة (1513م) ينصح أي حاكم ليحصل على القوة والجاه والسطوة أن يقوم بفصل السياسة عن الأخلاق والمبادئ والشرف, واتخاذ إي وسيلة من اجل الوصول إلى الغاية, فهو يرى (إن الغاية تبرر الوسيلة).
من الباروك والركوكو الى الصراع الطبقي
أما في القرنين السابع والثامن عشر, فكان عصر الباروك التي تعني (اللؤلؤ غير المنتظم) وهي الصفة المميزة للفن الأوربي ومن خصائصها الشكلية Formalism) ) والتمثيلية (Representation) وظلت ايطاليا محافظة على الطابع الباروكي لمدة قرنين, وقد قدمت ايطاليا للعالم مبدأين أساسين هما الأكاديمية والطبيعة, إذ تعمقوا بأسرار الطبيعة والعالم ومن أشهر من تأثر بذلك من فنانين العالم رامبرانت وروبنز.
إما فن الركوكو فهو فن التنميق والزخرفة وان كان يعتمد على كفاءة قوية في الرسم ولكنها خالية من الإبداع, وهو فن مقيد برغبة الملك وأهل البلاط ويقتصر هذا الفن على تصوير حياة الملوك والنبلاء والمواضيع الجميلة للحواري والغيد الحسان
وفي القرن الثامن عشر والتاسع عشر كانت حقبة صراعات بين الأممية والقومية, مابين السياسة الكلية (سيادة الدولة ) وسياسة الطبقة (سياسة الشعب) حتى بلغت القمة في التناقض والتوتر, كذلك مجيء الثورة الروسية وتصاعد قوى الحركات الاشتراكية والشيوعية وصعود الفاشية والنازية في كل من ايطاليا وألمانيا مع القرن العشرين لقد نشبت الثورة البرجوازية ضد الإقطاع, والبروليتاريه (طبقة العمال) ضد الرأسمالية في مرحلة التحديث, وهكذا انتصرت البرجوازية والطبقات المتوسطة وتبلور الصراع الطبقي مع ظهور العلمانية والدولة المركزية المطلقة ولمزيد من التوضيح يرى الباحث إن الدكتاتوريات ظهرت بعد انهيار الملكيات كما في ألمانيا وروسيا, كذلك ظهور دكتاتوريات بعد انهيار الجمهوريات, إذ يرتكز الحكم الفاشي على طبقة الملاك وأصحاب رأس المال والمدراء المناهضين لسيطرة العمال, والحكم الشيوعي يستند إلى طبقة العمال والفلاحين, وكل منهما يتجه لتنمية بيروقراطية إدارية خاصة به, كما يدرك الدكتاتور ضرورة بناء جهاز عسكري معقد تحت سيطرته, وقد يتخذ دستورا ديمقراطيا إلا انه يبقى معطلا وكل من الدولتين الفاشية والشيوعية ذات كيان مغلق داخليا وخارجيا, داخليا إزاء التعبير عن الآراء المعارضة لنظام الحكم, وخارجيا حيال دخول مؤثرات تشجع على الحرية والسفر, وتعتمد كل منهما على نظام حزبي واحد من أقلية مستبدة, يعدّون الجماهير بمستقبل واعد خالي من الطبقات ودولة الرفاهية, وهي تعمل بشكل مطرد على القضاء على آثار المشروعات الخاصة.
داروين والبقاء للأصلح
وقد رحب فلاسفة الفاشية والشيوعية بنظريات دارون حول فكرة بقاء الأصلح عن طريق الكفاح المسلح, وكل منهما يرى في أيديولوجيته الأصلح, وفي مجال الفنون فالاتجاه نحو الفن الواقعي, الذي يسهل على الجماهير فهمه, وخاصة فن الملصقات كوسيلة لنشر تعاليم الدولة المستبدة, وترى في حرية التعبير والفردية والشكلانية والأسلوبية ومذهب اللذة في الفن أللبرالي, ضربا من عوامل الضعف في المجتمع لأنه لا يحمل رسالة الطاعة والولاء كما في النموذج اعلاه.
ملصقات الواقعية الاشتراكية لتمجيد الأيديولوجية الثورية الشيوعية والنازية المستبدة فجاءت التحولات التعبيرية الكاسحة لتيارات الفن الحديث, كرد فعل لحقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى ومابين الحربين العالميتين, إذ عمدت الدادائيون إلى تمجيد كل ما هو مبتذل ورخيص, كما جاء في البيان الثاني للسريالية عام 1924 (إن الواقع قبيح, وان الجمال لا يوجد إلا فيما هو غير واقعي, وان الإنسان هو الذي ادخل الجمال في العالم, ولكي نقترب من الجمال, لابد من أن نبتعد عن الواقع),  كانت الانتقادات المنهجية الموجهة إلى مفاهيم الحداثة التي تبنتها وقيم عصر الأنوار بكل ما يخص العقل والذات والحقيقة والهوية والتحرر والحكايات الكبرى, لها الدور الأساس في تشكيل التنظير العلمي والإبداعي لمفهوم ما بعد الحداثة, إذ تأسست مجموعة أفكار مناهضة للأفكار الحداثية, وحسب تعبير هارفي (إن بنية المشاعر الجديدة التي تم بلوغها في عصر ما بعد الحداثة أصبحت قادرة على تفكيك الأفكار الحداثية وتجاوزها بل وتشويهها ), وهنا تتضح فكرتين أساسيتين هما:
1-فكرة القطعية الابستيمولوجية التي ألغت بها مفاهيم الحداثة .
2-فكرة التفتح الابستيمولوجي لأن ما بعد الحداثة عند مواجهتها لهذه الاختلافات والصراعات بغية حلها, لا تقوم بذلك كفعل سلطوي , بل تعالجه بالحوار والنقاش النقدي, لذلك فأن مفهوم ما بعد الحداثة يتأرجح بين تصورين هما الزمان والأسلوب, إذ أن ما بعد الحداثة هو مفهوم زماني تكمن وظيفته في الربط بين ظهور خصائص شكلية وفكرية جديدة في الثقافة وبين نمط جديد من الحياة الاجتماعية ونظام اقتصادي جديد, هو ما يسمى بالمجتمع الاستهلاكي ومجتمع وسائل الإعلام أو الرأسمالية متعددة الجنسيات, أما الثاني فيحمل دلالة ديناميكية تتجسد خاصيتها في نمط متطور من أنماط الفن, أو أسلوب تقني رغبة بالتطلع وبشكل مستمر إلى كل ما هو جديد لقد تعرضت التصورات العقلانية للحداثة وتحديدا (الذاتية ) لموجه شديدة من النقد لتحجيم ذلك المفهوم, فأبرز التحليل النفسي هشاشة مفهوم الذات, إما الثورة اللسانية البنيوية فقد قلصت من صلاحيات وفعاليات الذات المنتجة للخطاب, فمارست (بنيه) ما بعد الحداثة ومن خلال عمله باكتساحها للبنى والذهنيات السابقة وفعلها التفكيكي على الثقافات المغايرة لها, بأحداث نوع من القطيعة معها مولده سلسله من الصدمات, فكان التحول الملحوظ في صياغات المعنى والممارسات والخطاب, فكانت ما بعد الحداثة تنادي بنهاية الإيديولوجيات والمعتقدات والخروج عن كل قياس معياري, ويتم ذلك من خلال العبور نحو عالم التكنولوجيا والنزعة الاستهلاكية وصناعة الثقافة وهي عوالم سريعة التبدل والزوال, ترتقي فيها صناعة المعلومات والإعلام والخدمات والمال والصور على المصنع التقليدي.

نشرت في الولاية العدد 114

مقالات ذات صله