الإمام علي بن الحسين السجاد(عليه السلام)

فاروق ابو العبرة

الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)الملقب بالسجاد، هو رابع الأئمة المعصومين(عليه السلام)، دفن في البقيع على أثر السم الذي قُدم إليه في زمن الوليد بن عبد الملك.
استلم إرث الإمامة في عصر العاشر من المحرم بعد معركة الطف، وسيق أسيراً من كربلاء إلى الكوفة وإلى الشام مع قافلة السبي، وكان محاطاً بنساء ثكلى وأيتام يقودهم هو(عليه السلام) ويسهر على أن لا يمتد إليهم سوء، وكم تهددته المواقف بالقتل في مجلس ابن زياد في الكوفة وفي مجلس يزيد في الشام، وأعاد إلى الأذهان بخطبتيه شجاعة وبلاغة وفصاحة جده الإمام علي(عليه السلام)، مع انه من المفترض قد أصيب بالتعب النفسي من عناء الأسر، إلا أنه(عليه السلام) وجه إلى جهاز الحكم صفعة لم يكن يتوقعها الأمويون في محاججته لهم وهو شاب عليل زعزع كيانهم وألّب عليهم الناس وجعلهم في زاوية الإتهام، بالأخص أمام حشد أهل الشام المخدوعين بسياسة وأكاذيب معاوية ويزيد، فرسم ما أراده الإمام الحسين(عليه السلام) من تضحية، وكان ينطق عنه تحت غطاء المصيبة وهم في سكرتهم ونشوة الانتقام، ويرسل ما يهيئ الأرضية للمستقبل ويحرك به ما بقي من ضمائر ماتت، فيفضح جرائمهم في محطات تنقّله في مسيرة السبي ويبين للناس الحقائق وبنود هذه المأساة التي زيفوها بمظهر الإسلام، ويلفت نظر الغافلين وينبههم إلى المنهج الذي تتبعه سياسة الدولة الأموية.
الأيام المظلمة:
لقد قتل اكثر الرجالات الشيعة في واقعتي الطف والتوابين وقيام المختار، والبقية الباقية جماعة ضعيفة مرعوبة مبثوثة في الولايات، هاربة من بطش جهاز يزيد، وبالخصوص بعد انتشار خبر واقعة كربلاء، اذ عمّ الخوف أكثر في العراق والحجاز، فأرعب كل من كان على اتصال بخط الإمامة، وزاد الشعور بأن يزيد لم يتورع بعمل أي شيء وهو الذي قتل الإمام الحسين(عليه السلام) وسفك دم سبط رسول الله(صلى الله عليه واله)، والانتقام الذي مارسه في منطقة نفوذ الشيعة بحادثة الحرة في المدينة المنورة عندما هاجمها بجيشه وارتكب فيها أفظع الجرائم التي لم يعرف لها التأريخ مثيلا من قتل الناس والتمثيل بهم وحرق ممتلكاتهم، وكانت الأوامر أن دماء وأموال وأعراض أهل المدينة مباحة لجيش الشام، فالولايات كانت ترتعب بما فعله يزيد بالمدينة، مما جعل الناس يرتدون عن أهل البيت(عليهم السلام) ويتوارون لأقصى بقعة في الأرض حتى تقطعت فيما بينهم السبل.
من هذه النقطة كانت بداية حركة الامام السجاد(عليه السلام) لملمة للشيعة وإعادة تنظيمهم في مرحلة صعبة بعد مقتل الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) اللذان اهتز لمقتلهما العالم الإسلامي، فكانت أيامه شبيهة بمراحل قتل الأنبياء من جهة الشؤم فيما ينال أهل الأرض.
لقد استطاع بني أمية أن يوجدوا ظلماً ونظاماً ارهابياً وانحطاطاً فكرياً في المجتمع الاسلامي، لعدم اهتمامهم بالإسلام وهجرهم التعاليم الدينية، حتى أصيب الناس بالإحباط والفراغ وعدم الإيمان، وكانوا يرسخون بعقولهم أن الخليفة من بني أمية هو خليفة الله في الأرض وأفضل من رسول الله(صلى الله عليه واله)، ويأتون بمثال فيقولون(لو أنك تركت في أهلك شخصاً يخلفك في غيبتك فهل هو أفضل، أم هل الذي يأتيك برسالة فالخليفة أفضل طبعاً) هكذا كانوا يشيعون بين الناس أن كل واحد من خلفاء الجور والفسق هو أفضل من النبي(صلى الله عليه واله).
سياسة الإمام الهادئة:
دامت إمامة السجاد(عليه السلام) (34)عاماً من(61)هـ ولغاية(95)هـ، وكان النهج هو ذات الهدف الذي اختطه آبائه الائمة(عليه السلام) في تدوين وتدريس ونشر فكر مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، لتكوين أساس لحكومة إسلامية تقود مجتمعا فاضلا. ولكن كيف السبيل إلى إقامة مثل هذه الحكومة؟ والأرضية الفكرية بعد لم يتم تحقيقها في المجتمع، والشيعة مهمشين ومهددين، ونستشف ذلك الجو المظلم من قوله(ع):(كفانا الله وإياكم كيد الظالمين وبغي الفاسدين وبطش الجبارين).
فالطريقة التي كان يتبعها الإمام(عليه السلام) هي عدم المواجهة مع السلطة، وإنما كانت سياسته أشبه بمرحلة الدعوة إلى الإسلام في مراحلها الأولى السرية، وكان في ذلك حكيماً، إذ أن أتباعه قليلون ولا يمكنه المخاطرة بهم، والأمور تتهددهم بالإبادة.
إعادة المجتمع إلى الإمامة:
أن من أهم أهداف الإمام السجاد(عليه السلام) كانت تعريف الناس بمقام الولاية والإمامة وأنه حق ثابت لأهل البيت(عليهم السلام)، وأزمنة التحريف والنسيان أثرت إذ ليس من السهل أن تعود إلى ما كانت عليه في عصر التبليغ لحجم التدليس والظلم والتحريف.
فأنطلق الإمام(عليه السلام) من محور الوعظ والارشاد وإيقاظ المجتمع من سبات الجهل والغفلة اذ يقول(عليه السلام):(أيها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا، المائلون إليها المفتونون بها، المقبلون عليها).
فالدوافع إذن لمعرفة واقع الإمامة التي كانت تعنى بها الحكومة الالهية وتتكفل لهداية الناس هو قوله(عليه السلام): (فقدموا أمر الله وطاعته وطاعة من أوجب الله طاعته) يريد(عليه السلام) إلفات النظر إلى الشرعية وإلى الإمام الشرعي، وأن لا يفهم أحد معنى الإمامة فهماً خاطئاً في المجتمع الإسلامي، لأن في مراحلها سُلبت من أهلها وأعطيت إلى من لا يستحق، حتى ترسخت في الأذهان أن معاوية ويزيد ومروان وبني أمية هم من الخلفاء الذين تجب طاعتهم.
هذه التركة التي خلفتها سياسة النفاق التي قادها معاوية في تزوير الحقائق وتلفيق الأحاديث امتدت لعشرات السنين لا يسمحون مطلقاً التحدث خارج نطاقها.
هذا ما واجهه الإمام السجاد(عليه السلام)، سيل من روايات مزورة ومختلقة ينسبونها إلى رسول الله(صلى الله عليه واله)، لذا كان من واجبه التذكير بدقائق التوحيد والنبوة والمعاد والقرآن ويحيي في الناس المعارف والعقائد الالهية، وألا ينساقوا وراء المادة والطمع والحياة الدنيوية التي كانت تسري في عموم المجتمعات الإسلامية بخلاف ما كانوا عليه أيام رسول الله(صلى الله عليه واله)، فالعوامل المعنوية افتقدتها الناس، والتصحيح للعودة إلى سابق عهدهم من الإيمان أصبح ضرورياً.
وللشيخ للمجلسي بهذا الصدد قول: (إن آيات الشرك ظاهرها الأصنام وباطنها خلفاء الجور الذين نصّبوا أنفسهم وادعوا الإمامة، فكل من يطيعهم يُعد مشركاً بالله لعدولهم عن الأدلة العقلية والنقلية إلى الأهواء ولتركهم أئمة الحق وإتباعهم أئمة الفسق والباطل).
فمن المساعي التي اعتمدها الإمام السجاد(عليه السلام) مواجهته وعاظ السلاطين من العلماء والمتحدثين في جهاز الدولة، الذين يتحملون كامل الوزر والمسؤولية في تغيير الأفكار إلى الوضع الذي يريده الحكام من الناس مستسلمين يتحركون ضمن سياق سلطاتهم.
ولو أدرك الناس أنهم في خط عدم جواز البيعة لهؤلاء الخلفاء، وأنهم في واقع منافٍ للإسلام لماتوا غيظاً بمعنى أنهم كانوا يتصورون أن وضعهم إسلامي.
ومن الشواهد(محمد بن مسلم الزهري) الذي كان من الوضاعين للأحاديث بما يناسب أهواء الوليد بن عبد الملك قال له الإمام: (أوليس بدعائه إياك حين دعاك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم وجسراً يعبرون عليه إلى بلاياهم وسلماً إلى ضلالتهم، داعياً إلى غيهم سالكاً سبيلهم… ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم).
وأخيراً نذكر أن من مفاخره(عليه السلام) في الحج حين انفلق الناس عنه سماطين ليمر إلى الحجر الأسود، والحاكم العباسي هشام بن عبد الملك كان حاضراً يرى المنظر، فسأل عنه فأجابه الفرزدق بقصيدة هي من أشهر ما قال بحق أهل البيت(عليهم السلام) مطلعها.
(هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم)
وإلى آخر الأبيات كانت كوقع السيف على قلب هشام، وحين سمع به الإمام أرسل إليه مالاً فلم يقبله وقال:(ماقلته لله لا أُريد عليه مالاً).

نشرت في الولاية العدد 116

مقالات ذات صله