تاريخ تذهيب المرقد العلوي المطهر


أ.د. عبدالهادي الابراهيمي

كان بناء المرقد العلوي في العهد الصفوي مغلفاً بالحجر القاشاني الأزرق بعد اكتمال التشييد، ولكن بعد انتهاء عهد السلطة الصفوية وتولي السلطان نادر شاه الأفشاري الحكم في إيران أَمَرَ بقلع القاشاني عن القبّة والمنارتين والإيوان الشرقي الكبير واستبدالها بالصفائح النحاسية المطلية بالذهب الخالص. وقد ابتدأ العمل بالتذهيب في سنة 1155هـ/1742م وانتهى في سنة 1156هـ/1743م.
ونقل الشيخ محمد حسين حرز الدين في تاريخه عن كتاب «نادر نامه» (فارسي) 473 ما ترجمته:(حينما صدر الأمر من السلطان نادر شاه بتذهيب القبّة المباركة امتثل أمره بذلك خدّام العتبة الملوكية أحسن امتثال فاعتنوا بتذهيب القبّة المطهرة أحسن عناية, وقد ضبطوا حساب ما صُرف لهذا المشروع فبلغ ما يعادل خمسين ألف تومان, وقد أحال حساب ذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام(1).
ولعلَّ من المناسب أنْ نذكر هنا ما نقله البراقي في «اليتيمة الغروية» عن الشيخ محمد كبّة في كتابه «الدرر المنثورة» ما نصه: (وفي سنة خمس وخمسين ومائة وألف تم بناء قبّة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بالذهب مع الحضرة الشريفة, والذي بناها نادر شاه حيث نذر إنْ أمكنه الله من بلاد الهند ليفعل ذلك, فأمكنه الله وفتح الهند وبلاد كثيرة ويُقال له أبو الفتوح، فوعد بما عاهد نفسه من النذر)(2).
وبغض النظر عن السبب الذي دفع نادر شاه إلى تذهيب المرقد العلوي فلا يخفى على المتأمل المعنى الرمزي الكبير لعملية التذهيب التي تدل على انَّ الذهب قد جاء خاضعاً لمرقد أمير المؤمنين عليه السلام بعد أنْ زهد فيه وفي الدنيا بأجمعها, وله عليه السلام في ذم الدنيا والحث على الزهد خطب وأحاديث كثيرة.
ويلاحظ ان عملية التذهيب قد تضمنت الكثير من الزخارف الرائعة والصفائح التي نقش عليها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والقصائد الشعرية باللغات العربية والفارسية والتركية, وتم توثيق عام اكتمال عملية التذهيب وهو(1156ه) بالتواريخ الشعرية وبالأرقام.
وقد أرّخ عدد من الشعراء والعلماء عام الشروع بتذهيب القبّة العلوية المطهرة (1155هـ),ومنهم العلاّمة السيد نصر الله الحائري (ت 1168هـ)إذ نظم قصيدة طويلة جاء في بعض أبياتها:
إذا ضامك الدهر يوماً وجارا فلُذْ بحمى أمنع الخلق جارا
وما يبلغ التبرُ من قبّةٍ بها عالم المُلكِ زاد افتخارا
تُبدى سناها عياناً فأرّختُ (آنستُ من جانب الطور نارا)(3)
ويطوّق القبّة في أعلى الرقبة شريط من المينا الزرقاء نُقشت عليه بحروف ذهبية آيات كريمة من سورة الفتح، ويوجد في أعلى وأسفل الآيات القرآنية أبيات شعرية فارسية وتركية. ومن الجدير بالذكر انَّ وضع الشريط بمكانه قد تمَّ في سنة 1156هـ, إذ كُتِب في اللوحة الأخيرة من حزام القبّة باللغة العربية ما نصه: (فالحمد لله الذي أكرمنا بهذه النعمة العظمى في سنة 1156هـ، قد تشرّف بكتابتها في طهران محمد حسين التبريزي)(4).
وقد وُضع في أعلى الرمانة الذهبية للقبّة اكليلٌ ذهبيٌ ذو رمزية عقائدية مستوحاة من فكر أهل البيت عليهم السلام، إذ يتألف من طُرّة دائرية الشكل يبرز منها أربعة عشر شعاعا ترمز للمعصومين الأربعة عشر (محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة التسعة من ولد الحسين صلوات الله عليهم),ويعلو الطرة كفا كُتب براحته الآية القرآنية }يدُ اللهِ فَوْقَ أَيْديهمْ{سورة الفتح الآية 10، ولا يخفى انَّ الرمزية في الكف تشير إلى الخمسة أهل الكساء عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم والى بيعة أمير المؤمنين عليه السلام.
ووُضع وفي أسفل شرفة المؤذن في كل منارة شريطاً كُتب عليه بحروف ذهبية آيات من سورة الجمعة على أرضية من المينا الزرقاء، وقد خُتمت الكتيبة باسم كاتبها (مهر علي),ويلاحظ في الصف الأخير من البلاطات الذهبية في قاعدة المنارة الشمالية المجاورة لمرقد العلاّمة الحلي خمسة أبيات فارسية وفي آخرها إسم كاتبها محمد جعفر, وتنتهي القصيدة ببيت يتضمن تاريخا شعريا لاكتمال تذهيب المنارتين (1156هـ)، وهو:
بگفت مقري طبع نواسنج (تعالى شأنه الله أكبر)(5)

وبالمقابل نُقش على الصف الأخير من الصفائح الذهبية المزخرفة الموجودة في قاعدة المنارة الجنوبية المجاورة لمرقد المقدس الأردبيلي خمسة أبيات عربية. ويشير البيت الأخير في هذه القصيدة إلى عام اكتمال تذهيب المنارتين (1156هـ),والقصيدة هي:
ويعجب كل نور من سناه كما شمس الضحى بل صار أنورْ
تنوَّرَ عسجداً بمنار عزٍّ يدوم بقاؤه والليل أدبرْ
نهار مسرة الأمثال أضحى بذلك صبح أفق المصر أسفرْ
وفاز بذاك (نادر) كل عصر فسبّح ثم هلّل ثم كبّرْ
وقام مؤذّن التاريخ فيه يكرّر أربعاً (اللهُ أكبرْ)(6)
ومن الجدير بالذكر إنَّ حساب عبارة (الله أكبر) بقيم الحروف المتعارف عليه يساوي 289، وعندما يُضرب هذا الرقم في أربعة يكون المجموع 1156, وهو يمثّل السنة التي تم فيها اكتمال تذهيب المنارتين. فضلاً عن ذلك فقد تم توثيق تاريخ التذهيب بكتابة عبارة (سعداً عظيماً) منقوشة بالتخريم على شباك صغير بحجم الصفيحة الذهبية يقع في القسم الأسفل من المنارة الجنوبية, فلو جُمِعتْ قيم حروف هاتين الكلمتين وفقاً للحساب المتعارف فإنها تؤلّف الرقم 1156 وهو تاريخ اكتمال التذهيب.
أما الإيوان الذهبي الكبير فهو بحق رائعة من روائع فن العمارة الإسلامية, وآية في الفخامة والجمال ودقة الصنعة, وهو يحوي الكثير من الزخارف والنقوش والكتابات والقصائد الشعرية باللغات العربية والفارسية والتركية. وقد تم توثيق اكتمال عملية التذهيب بمدوّنة كُتبت بخط الثلث المتراكب ضمن شريط عريض يقع في أعلى واجهة الإيوان الذهبي ما نصها: (الحمد لله تعالى, قد تشرف بتذهيب هذه القبّة المنورة والروضة المطهرة الخاقان الأعظم سلطان السلاطين الأفخم المظفر المؤيد بتأييد الملك السلطان نادر أدام الله ملكه وسلطنته وأفاض على العالمين برّه وعدله وإحسانه, خلّده الله ودولته, سنة ستة وخمسين ومئة بعد الألف, 1156ه).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ النجف الأشرف:1/404.
(2) اليتيمة الغروية والتحفة النجفية:407.
(3) ديوان الحائري:
(4) دليل العتبة العلوية المقدسة: 133.
(5)ماضي النجف وحاضرها:1/66.
(6) المصدر السابق:1/66.
نشرت في الولاية العدد 120

مقالات ذات صله