الاسلوب البلاغي في رحلة موسى مع الخضر(عليهما السلام)


م.م. علي محمد عبد الحسين أبو شبع

في القضايا التي واجهت موسى(ع) في حواره مع الخضر(ع), في قصة أراد الله لموسى(ع), فيها أن ينفتح على توجيه جديد, يحتاجه أصحاب الرسالات في ما يواجهونه من مفاجآت وأحداث, وقد أراد الله سبحانه وتعالى لموسى(ع) أن يواجه هذا الموضوع ويفتح عليه بوساطة تجربة حية مع أحد عباد الله الصالحين الذين أتاهم الله رشداً وعلمهم علماً مما عنده, فوضع لنا الحوار الذي حصل بين موسى والخضر(عليهما السلام) أغراضا بلاغية نحو: الإنكار, والتقرير, والتذكير, قال موسى للخضر(ع), أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً. قال الخضر لموسى: إنك لن تستطيع معي صبراً يا موسى: إني على علم من الله سبحانه وتعالى لا تعلمه أنت .
وأنت على علم من الله سبحانه وتعالى لا أعلمه أنا .
قال له موسى(ع) ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً, فقال له الخضر إن أتبعتني فلا تسألني عن شيء، حتى أحدث لك منه ذكراً فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فحدثت ثلاثة أفعال للخضر, نحو قوله تعال: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾(الكهف/ 65- 67), وهذه الآية تحكي أول صورة من صور الحوار بين موسى والخضر(عليهما السلام), ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ﴾: نقل المطعني في (التفسير البلاغي) عن المفسرين: قال إن الاستفهام في هذه الآية يستعمل في معنى الاستئذان, وهذه خلاصة ما قالوه في هذا الموضع. يعني أن الاستفهام حقيقي لا مجازي، ولا خلاف فيه بين المفسرين القدماء والمعاصرين, كان الغرض منه استكشاف ما عند الخضر(ع) أيوافق استصحابه أم لا يوافق وهذا حق وصواب, فأستمر الحوار بين موسى والخضر (عليهما السلام) إذ قال تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾(الكهف/ 98- 70), لما سأل موسى الخضر أن يأذن لهُ في الإتباع والتعليم منه. قال الخضر لموسى ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ثم بين لهُ لماذا لن يستطيع معه صبراً، فقال ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾, معلناً لهُ أن علمهُ مختلف عن علمه, أن موسى (ع) يعلم ظاهر الأمور، أما الخضر فيعلم بإذن من الله سبحانه وتعالى بواطن الأمور وأسرارها, و ﴿كَيْفَ تَصْبِرُ﴾ الاستفهام هنا لم يولهُ المفسرون عناية؛ لظهور المراد منه ولأنهم عالجوا نظائر له في ما تقدم, لكن من الواضح انه استفهام على وجه الحقيقة.
أفعال الخضر:
أولاً – موسى والخضر (ع) يركبان السفينة: قال تعالى: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾( الكهف/ 71- 73), على ضوء هذا أوضح لهُ طبيعة سلوكه الذي تعارض مع المألوف, أعلن مقدماً لموسى (ع) أنه لن يستطيع الصبر؛ لان الإنسان لا يملك الصبر على ما لم يحط بمعرفته, فلم يكن من موسى إلا أن وعده بالصبر والطاعة المطلقة، وكانت تعليمات الخضر إلى موسى أن لا يسأله عن كل شيء يشاهده, فخرق الخضر للسفينة أمر لن يطيقه موسى صبرا فكان سؤال موسى, (أَخَرَقْتَهَا…), الهمزة للاستفهام الإنكاري والخضر يثير لموسى استغرابه ويرسم الاستفهام في ذهنه. وكان جواب الخضر ﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ (أَلَمْ): الهمزة للاستفهام التقريري والإنكار على عدم وقوع الصبر من موسى (ع), أما هذان الاستفهامان في الآيتين, ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا﴾ و﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ﴾ فتجاوزهما المفسرون, إلا إشارات أتت من ضمن كلام ليس فيه قصد مباشر للمراد من الاستفهام,
﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا﴾: المراد منه الإنكار, كما اشرنا لهُ آنفاً.
﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ﴾: المراد منه التذكير, لكن يخرج هنا الاستفهام إلى أغراض أخر ذكرتها آنفاً.
ثانياً – الخضر يقتل الغلام وموسى يعترض: قول تعالى: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾( الكهف/ 74- 76), هذا الفعل أشد من السابق, الأول في متاع من متاع الدنيا، أما هذا فقد وقع على نفس بريئة, وموسى(ع) لا يذكر الشرط الذي حصل بينه وبين الخضر، فيصرخ صرخة عالية ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾, (أَقَتَلْتَ): لاستفهام الإنكار واللوم, فالموقف هنا إزاء جريمة صارخة لا يمكن السكوت عنها, حسب تقديره وعذره, فقال له الخضر ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ فهو لم يجد أمام الخضر إلا أن يحسم الموقف فيقول للخضر واضعاً حداً لهذا الصراع الذي يدمر وجوده الداخلي, ذكر المطعني في (التفسير البلاغي) في معنى هاتين الآيتين يحكي القرآن ما دار بين الرجلين، حول الحادثة الثانية وفيها يُقدم الخضر على قتل شاب يافع بدون ذنب ظاهر يستوجب قتله، فيخرج موسى عن صمته للمرة الثانية, ويُعلن هذا الاعتراض في وجه الخضر: في الآيتين:
﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾؟ ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾
المراد من هذين الاستفهامين أن موسى (عليه السلام) استفهم منكراً وأن الخضر استفهم مقرراً ومذكراً.
فقال موسى للخضر ﴿إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾ فوجه موسى للخضر العذر، وبهذا قبل الخضر أن يبدأ المسير مع موسى مرة أخرى .
الخضر يبني الجدار وموسى كذلك يعترض: وذكر الخضر موسى عليه السلام بالشرط الذي أخده على نفسه: وهو أن سأله سؤالاً آخر؛ فإن الفراق يحصل حينئذ ﴿قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾ فلما ذكر هذا السؤال, فارقه ذلك العالم قائلاً: هذا فراق بيني وبينك.
وهذه الأحكام الثلاثة (السفينة- والغلام – والجدار) فسَّرها الخضر لموسى قبل مفارقته، ومعاني الافعال التي قام بها الخضر توجت في كتب التفاسير وكتب الحوار والرسائل الجامعية وغيرها…, وخلاصة ذلك: أن وراء الأشياء الظاهرة التي يلتقي بها موسى(ع)في حياته, أمورٌ غيبية خفية, قد تبدل الصورة وتغير النظرة وتجعل الإنسان يخرج بنتيجة مختلفة كل الاختلاف عما كونه من آراء واستنتاجات.

نشرت في الولاية العدد 122

مقالات ذات صله