التناص في دعاء الندبة


أ.م.د خليل خلف بشير – جامعة البصرة – كلية الآداب

ذكر الدارسون المحدثون تعريفات عديدة للتناص منها أنه أحد مميزات النص الأساسية التي تحيل على نصوص أخرى سابقة عنها معاصرة لها، بحيث أنه في كل نص يقع في ملتقى نصوص كثيرة تشكل قراءة جديدة تشديداً وتكثيفاً، والنص المتناص يكاد يحمل بعض صفات الأصول.
وعرفه بعض الدارسين بأنه: ((رابط خارجي للنصِّ بنص سابق، قد يستعمل جزءًا من ذلك النص السابق، وقد يشير إليه ويلمِّح، وذلك الجزء يترابط مع بنية النص الجديد ويصبح كالتطعيم له، سواء ارتبط به من جهة اللفظ أو المعنى أو كليهما معاً)).
إنّ ورود التناص نتيجة طبيعية لكون النص لا يبدأ من فراغ وإنما هو مزيج من القراءات المختلفة للنصوص المختزنة في ذهن مبدعه فضلاً عن الإبداع الذاتي له، فهو يقرأ قبل أن يكتب، وحين يكتب يحدث منه – عفوًا أو قصدًا-، فالإمام المعصوم في دعائه – دعاء الندبة – حينما استحضر حديث الغدير يدلل على أنه واع ٍ لهذا الحديث وهكذا هو (( علم أئمتنا الاثني عشر، فعلم آخرهم كعلم أوّلهم، علم إلهاميّ يتوارثونه إمام عن إمام، بل ورد أنّ الإمام ( عليه السلام ) تنتقل إليه حتى مواريث الأنبياء (عليهم السلام) كسيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعمامته أو عصا موسى (عليه السلام) التي صدرت منها المعاجز)).
فنجد الإمام المعصوم (عليه السلام) حينما ينهي حديثه عن جده المصطفى (صلى الله عليه وآله ) يتناص حديث الغدير فيقول: ((… فلما انقضتْ أيامه قام وليه علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما وعلى آلهما هاديا، إذ كان هو المنذر ولكل قوم هاد، فقال والملأ أمامه: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وقال: من كنت نبيه فعلي أميره، وقال: أنا وعلي من شجرة واحدة، وسائر الناس من شجر شتى، وأحله محل هارون من موسى، فقال: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، … )).
ويبدو أن حديث الغدير حديث متواتر قد روي بطرق مختلفة، من ذلك ما رواه ابن عساكر بروايات تختلف اختلافاً بسيطاً حسب اختلاف الرواة الصحابة فقد ابتدأ برواية أنس بن مالك ثم البراء بن عازب الأنصاري ثم بريدة بن الحصيب الأسلمي ثم جابر بن عبد الله الأنصاري ثم جرير بن عبد الله البجلي ثم حُبشي بن جنادة السلولي ثم حذيفة بن أسيد الغفاري ثم مولى أسامة بن زيد – حرملة أبي بسطام – ثم أبي أيوب الأنصاري ..الخ، وكانت العناية الإلهية كفيلة بحفظ هذا الحديث في الصدور لتتداوله الألسن وتتناقله الأجيال ولاسيما أنّ رسوله أمر بتبليغ الشاهد الغائب ليكونوا كلهم رواة لهذا الحديث، وهم يربون على مائة ألف، ولم يكتف ِ سبحانه بذلك حتى أنزل أمره في آيات من الذكر الحكيم تتلى بكرة وعشياً ليكون المسلمون على علم ودراية بهذه القضية في كل حين، وليعرفوا رشدهم والمرجع الذي يجب عليهم أن يأخذوا عنه معالم دينهم.
وتجلت هذه العناية الإلهية بتخليد حادثة الغدير في الذكر الحكيم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ – المائدة /67)، ولما بلّغ الرسالة بنصه على علي (عليه السلام) بالإمامة وعهده إليه بالخلافة أنزل تعالى قوله: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا –المائدة /3) فكانت عناية الرسول (صلى الله عليه وآله) بالحادثة واضحة حينما صرّح للناس بهذا الأمر الإلهي، ولم يختلف أئمة الهدى عن جدهم المصطفى في تذكير الناس بالحادثة فكانوا يتخذون من اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عيداً في كل عام يجلسون فيه للتهنئة والسرور بكل بهجة وحبور، ويتقربون الى الله تعالى بالذكر والصلوات والصيام والغسل والابتهال بالأدعية وكانوا في هذا اليوم يتخذونه عيداً يصلون فيه أرحامهم، ويوسعون على عيالهم، ويزورون إخوانهم، ويحفظون جيرانهم، وكذلك يفعل شيعتهم ومحبيهم.
وقد بذل الشيخ الأميني جهداً كبيراً في موسوعته الموسومة (الغدير في الكتاب والسنة والأدب) في تقصي رواة حديث الغدير من الصحابة والتابعين جمع الشعر الذي قيل في الغدير على مختلف القرون، ومثل ذلك في موسوعة (عبقات الأنوار) لمؤلفها السيد حامد حسين الهندي إذ كشف فيه عن أسانيد الحديث تفصيلاً، وضبط طرقه ورواته، ونقد من ذهب إلى عدم تواتر الحديث، كاشفاً خطل هذه الدعوى وعدم صوابها بأدلّة دامغة وافية.
ولما كان القرآن نصاً مقدساً من أقدس النصوص فقد ابتدأ بالتناص القرآني لآيات تحكي دور الرسالات السماوية في هداية الناس فضلاً عن بيانه عصمة أهل البيت (عليهم السلام)، وأجر الرسالة المحمدية الذي اقترن بمودة أهل بيته فقال: ((وَجَعَلْتَ لَهُ وَلَهُمْ اَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمينَ، فيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ اِبْراهيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، وَقُلْتَ (اِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ اَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً) ثُمَّ جَعَلْتَ اَجْرَ مُحَمَّدٍ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَوَدَّتَهُمْ في كِتابِكَ فَقُلْتَ: (قُلْ لا اَسْاَلُكُمْ عَلَيْهِ اَجْراً اِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبى)، وَقُلْتَ (ما سَألْتُكُمْ مِنْ اَجْر فَهُوَ لَكُمْ)، وَقُلْتَ: (ما أسْاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ اَجْر الّا مَنْ شاءَ اَنْ يَتَّخِذَ اِلى رَبِّهِ سَبيلاً)، فَلَمَّا انْقَضَتْ اَيّامُهُ اَقامَ وَلِيَّهُ عَلِيَّ بْنَ اَبي طالِب صَلَواتُكَ عَلَيْهِما وَآلِهِما هادِياً، اِذْ كانَ هُوَ الْمُنْذِرَ وَلِكُلِّ قَوْم هاد ٍ…)).
وهذا التناص القرآني أمر ممهد لحديث الغدير الذي يوكل أمر المسلمين الى ربيب النبوة الإمام علي (عليه السلام) الذي نصّبه النبي (صلى الله عليه وآله ) بأمر إلهي أميراً للمؤمنين إذ إن ّ منصب الإمامة لا يتعين إلا بأمر إلهي، فالإمام – بصفته مرجع المسلمين، ومنعقد طاعتهم وقدوتهم في أمر الدين والدنيا – يجب أن يكون حامل علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلم الوحي والأوامر الإلهية.
ثم يأتي دور التناص الحديثي فنجد النص الدعائي مشحوناً بكثير من الأحاديث النبوية التي قالها النبي (صلى الله عليه وآله) في حق علي (عليه السلام) في قول الإمام المعصوم (عليه السلام): ((وَقالَ اَنَا وَعَلِيٌّ مِنْ شَجَرَة واحِدَة وَسائِرُ النَّاسِ مِنْ شَجَر شَتّى، وَاَحَلَّهُ مَحَلَّ هارُونَ مِنْ مُوسى، فَقال لَهُ اَنْتَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هارُونَ مِنْ مُوسى الّا اَنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدي، وَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ سَيِّدَةَ نِساءِ الْعالَمينَ، وَاَحَلَّ لَهُ مِنْ مَسْجِدِهِ ما حَلَّ لَهُ، وَسَدَّ الأبْوابَ اِلاّ بابَهُ، ثُمَّ اَوْدَعَهُ عِلْمَهُ وَحِكْمَتَهُ فَقالَ: اَنـَا مَدينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِىٌّ بابُها، فَمَنْ اَرادَ الْمَدينَةَ وَالْحِكْمَةَ فَلْيَاْتِها مِنْ بابِها، ثُمَّ قالَ: اَنْتَ اَخي وَوَصِيّي وَوارِثي، لَحْمُكَ مِنْ لَحْمي وَدَمُكَ مِنْ دَمي وَسِلْمُكَ سِلْمي وَحَرْبُكَ حَرْبي وَالإيمانُ مُخالِطٌ لَحْمَكَ وَدَمَكَ كَما خالَطَ لَحْمي وَدَمي، وَاَنْتَ غَداً عَلَى الْحَوْضِ خَليفَتي وَاَنْتَ تَقْضي دَيْني وَتُنْجِزُ عِداتي وَشيعَتُكَ عَلى مَنابِرَ مِنْ نُور مُبْيَضَّةً وُجُوهُهُمْ حَوْلي فِي الْجَنَّةِ وَهُمْ جيراني، وَلَوْلا اَنْتَ يا عَلِيُّ لَمْ يُعْرَفِ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدي، وَكانَ بَعْدَهُ هُدىً مِنَ الضَّلالِ وَنُوراً مِنَ الْعَمى، وَحَبْلَ اللهِ الْمَتينَ وَصِراطَهُ الْمُسْتَقيمَ، لا يُسْبَقُ بِقَرابَةٍ في رَحِمٍ وَلا بِسابِقَةٍ في دينٍ، وَلا يُلْحَقُ في مَنْقَبَةٍ مِنْ مَناقِبِهِ)).
وهناك تناص قرآني آخر في الفقرة الأخيرة من الدعاء الذي يحكي مسيرة الإمام علي (عليه السلام) وهو: (( إذ كانت الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين))، وهو تناص من قوله تعالى على لسان موسى: ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ – الأعراف/128). وفي هذا النص عود على بدء، وارتباط خاتمته مع بدايته، إذ بدأ النص بحادثة تنصيب الإمام علي (عليه السلام) يوم الغدير وانتهى بسنة من سنن الله في كتابه الكريم؛ ألا وهي سنة الاستخلاف ووراثة الأرض التي وعدها الله عباده المتقين، وهو ما لم يتحقق لأمير المؤمنين(عليه السلام) بشكل كامل ولا لولده الأئمة من أهل البيت (عليه السلام)، وإنه سيتحقق إن شاء الله تعالى للإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف، إذ يحكم شرق الأرض وغربها ويحقق العدالة الإلهية ويحقق حلم الأنبياء وآبائه الطاهرين، كما يُرجع كل حق مغتصب لأهل البيت ويقتص من ظالميهم.
ويمكن لنا أن نسمي التناصين القرآني والحديثي بالتناص الديني إذ نجد الإمام المعصوم في أدعيته ولاسيما في هذا الدعاء يتكيء على النص الديني المتمثل بالقرآن الكريم والحديث الشريف فالقرآن الكريم بفضل فصاحته وبلاغته التي تحدى بها الله تعالى فصحاء العرب، نصاً مقدساً، ومصدراً إعجازياً أحدث ثورة فنية على معظم التعابير التي ابتدعها العربي شعراً ونثراً وقد سعى الإمام المعصوم (عليه السلام) في تناصاته القرآنية لترقية أبعاده اللغوية والفكرية ؛لأنه العروة الوثقى التي يتمسك بها، وهذا دليل على أنّ القرآن الكريم والعترة صنوان لا يفترقان لذا التمسك بهما يؤدي الى الهداية لا الى الغواية لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله ): (( إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلوا ما ان تمسكتم بهما وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)).
ومثله تناص قصصي مع قصص الأنبياء والمرسلين في دعاء الندبة لما في القصص القرآني من دور في رفد الإبداع الفني وما فيه من متعة وإناة وإغناء بالإشارة، وما له من دلالة عميقة حينما تتعانق الشخصيات القصصية في نص واحد، وقد عمد الإمام المعصوم الى البدء بأبيهم وأبي البشرية جمعاء آدم (عليه السلام)، وانتهى بخاتم الأنبياء والمرسلين محمد (صلى الله عليه وآله) إذ يقول: (( فَبَعْضٌ اَسْكَنْتَهُ جَنَّتَكَ اِلى اَنْ اَخْرَجْتَهُ مِنْها، وَبَعْضٌ حَمَلْتَهُ في فُلْكِكَ وَنَجَّيْتَهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنَ الْهَلَكَةِ بِرَحْمَتِكَ، وَبَعْضٌ اتَّخَذْتَهُ لِنَفْسِكَ خَليلاً وَسَأَلَكَ لِسانَ صِدْق فِي الاْخِرينَ فَاَجَبْتَهُ وَجَعَلْتَ ذلِكَ عَلِيّاً، وَبَعْضٌ كَلَّمْتَهُ مِنْ شَجَـرَةٍ تَكْليماً وَجَعَلْتَ لَهُ مِنْ اَخيهِ رِدْءاً وَوَزيراً، وَبَعْضٌ اَوْلَدْتَهُ مِنْ غَيْرِ اَب وَآتَيْتَهُ الْبَيِّناتِ وَاَيَّدْتَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ..)) فجاء التناص القصصي في هذا المقطع مسلسلاً من آدم الساكن في الجنة والخارج منها، ثم نوح المحمول في الفلك، ثم إبراهيم المتخذ خليلاً، ثم موسى المكلّم من شجرة تكليماً ثم عيسى المولود من غير أب – عليهم السلام – .

نشرت في الولاية العدد 122

مقالات ذات صله