لمــحة عن الرمز والرمزية في الأدب والفن

محمد الخالدي

عَرفَ الشاعر العربي القديم ولاسيما في العصر الجاهلي, الرمز واستعمله استعمالاً فنيا يدل على المهارة وحسن الصنعة والإجادة, ومن شواهدنا على ذلك ما نجده من دلالات رمزية في شعر امرئ القيس وغيره من شعراء ذلك العصر,فضلاً عن شعراء آخرين جاؤوا من بعدهم, يأتي في مقدمتهم أبو تمام.

وفي العصر الحديث ظهرت الرمزيّة(1) في فرنسا, كحركة أدبية فنية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي(2), وقيل في مطلعه(3) وكانت في مراحلها الأولى تدعى بـ(الإنحطاطية) وكان اتجاهها- في بادئ الأمر- فلسفياً أكثر مما هو أدبي. أما شعارها الذي رفعته فكان (الفن من أجل الفن ), ويُعدُ ستيفان ملارميه(1842- 1898م) برأي بعض الكتّاب هو المؤسس الحقيقي لهذه المدرسة(4), في حين يُعدُ جاك مورياس أول من أطلق عليها اسم (الرمزية) في عام 1886م(5) في حين يقرر بعض الدارسين أنّ أول مبشر لها كمذهب فني واعٍ هو الشاعر فرايدريش فون هردنبرج ,المعروف باسم (نوفاليس) (1772- 1801م)(6).
ويرى بعض الباحثين أن (نشأة الرمزية في الأصل بمثابة رد فعل ضد ما سبقها من تيارات أدبية ولاسيما التيار الرومانتيكي, والتيار البرناسي)(7).
حاولت هذه المدرسة (نقل الأدب من دائرة المادة إلى دائرة الروح, فهي إذاً ثورة على عبودية البيان، ينتفي فيها الوصف وتذكر الأشياء بالإيحاء والتلميح)(8).
وتفنن الرمزيـّون في شعرهم, ولم يكتفوا بذلك, بل لجؤوا إلى استعمال (الألفاظ المشعة الموحية التي تعبر في قراءتها عن أجواء نفسية رحبة كلفظ الغروب الذي يوحي في موقعه مثلا بمصرع الشمس الدامي. والألوان الغاربة الهاربة والشعور بان شيئا يزول والإحساس بالانقباض وما إليها)(9), كما أنّهم بالغوا بولع في تقريب الصفات المتباعدة في الإيحاء و جاؤوا بصفات جديدة مثل : (السكون المقمر) و(الضوء الباكي)و( الأسمال الفضية) و(القمر الشرس) والشمس المرة المذاق)(10), ودعوا فيما دعوا إليه من التحرر ولاسيما (تحرير الشعر من الأوزان التقليدية, لتساير الموسيقى فيه دفعات الشعور: فدعوا إلى الشعر المطلق من التزام القافية, والشعر الحر من الوزن والقافية)(11), كما دعوا (إلى تنوع موسيقى الوزن في القصيدة الواحدة بما يتلاءم وتنوع المشاعر وخلجات النفس فضلا عن تطابق الشعور مع الموسيقى المعبّرة عنه وهذا ما يؤلف القصيدة الحق. إذ اعتقدوا أنّ الوزن التقليدي يخل بهذه الوحدة)(12).
ومنذ أواخر الثمانينيات من القرن التاسع عشر الميلادي (أصبحت النزعة الرمزيّة أبرز تيار شعري في فرنسا, إذ أنضم إليها أبرز الشعراء الفرنسيين آنذاك أمثال: بول فرلين, وآرثر رامبو, وستيفان مالارميه)(13).
وبغضون سنوات استطاعت الرمزيّة أن تؤسس لها قاعدة مهمة, تمكنت بوساطتها الانطلاق إلى جميع أنحاء العالم ومنه الوطن العربي, لذا لا غرابة أن نجد الشاعر حميد سعيد يعترف بهذه الحقيقة قائلاً :(بصراحة لا يمكن الإدعاء أنّ كل ما نكتبه هو عربي مائة بالمائة. فالرمز بشكله الحالي اقتبسناه من الشعر الأوربي, وكل اقتباس يبدأ أولاً بالشكل الذي كان عليه في مواطنه الأولى .. ثم يستوطن ويأخذ من أرضه الجديدة ملامح جديدة)(14).
ومع ضرورة الرمز في الشعر ولاسيما الشعر العراقي الحديث, إلاّ أننا نجد الشاعر بدر شاكر السيّاب يقلل من أهميته وقيمته بقوله :(لا أعتقد أنّ الرموز ضرورية مائة بالمائة يستطيع الشاعر أن يعبّر عن أعمق الأفكار من غير أن يلجأ إلى الرموز) ولكن نشوء الرموز (هذه الحقائق يجب أن نذكرها أيضا) نشأ الرمز أول ما نشأ في العراق وكان السبب سياسياً محضاً, ولقد كنا نحاول في زمن نوري السعيد (في زمن العهد الملكي المباد) أن نهاجم هذا النظام ولكننا كنا نخشى أن نهاجمه صراحة فكنا نلجأ إلى الرمز تعبيراًعن ثورتنا عليه)(15) ثم يستدرك ما قاله من عبارات سابقة مورداً حديثه بـ(ربّما), فيقول :((طبعا, شاع الرمز بصورة أعمق – ربّما- ولأغراض غير سياسية, لأن الأغراض السياسية ليست عميقة … أغراض زائلة مؤقتة)(16).
الرمز وقيمة التجربة الشعرية:
يُعدُ الرمز رافداً مهماً من روافد الجمالية الشعرية في القصيدة, إذ تكمن أهميته في تلك الصياغات الإبداعية التي يجسدها بوحي من الإلهام الشاعري, وقد أسهم اسهاماً كبيراً في تطوّر الشعر العالمي وانتشاره ولاسيما الذي كتبه الشعراء والأدباء الكبار.
فالفكرة بوصفها المحور المهم الذي تدور حوله آليات التعبير الشعري, فهي إذن بحاجة إلى واسطة لنقلها من هيأتها المتمثلة بالصورة المجردة من كل ما هو محسوس إلى هيأة أخرى يجسدها المعنى الآخر الذي يكون أكثر شمولية وإيحاءً مما تنقله الصورة الحسية بذاتها, مما يتح لبناء علاقات وطيدة بين مفهوم النص العام والصورة الكلية التي يُظهرها الرمز بتجلياته المتنوعة.
من هنا يمكننا القول إنّ مفهوم الرمزية العام (يستند على فكرتين أساسيتين, أولهما مثالية أفلاطون التي تنكر حقائق الأشياء الملموسة ولا ترى فيها غير صور ترمز للحقائق المثالية البعيدة عن العالم الواقعي. وثانيهما الفكرة القائلة إنّ عقلنا الواعي له مجال محدود, وذلك لأنّ خلف هذا العقل الواعي مجال واسع يعمل فيه اللاشعور وهو الذي يحدد سلوكنا وتصرفاتنا في أكثر الأحيان وإلى اللاشعور يرجع الفضل في الخلق والإبداع الفنّي)(17).
ويذهب بعض علماء النفس إلى الربط بين تفكير المبدع والضغط الغريزي في تحليلهم لبعض الظواهر الإبداعية ومنهم (دواج ) الذي يفسر هذه الحالة بقوله :(عندما ينشأ الضغط الغريزي ويبدو الحل العصابي أمراً لا مناص منه, فإنّ الدفاع اللاشعوري ضده يؤدي إلى خلق فنّي, والأثر النفسي حدوث انفعال مكبوت إلى أنْ يجد له متنفساً في الإنتاج الفنّي)(18).
وبهذا الشأن يقول فرلين (1844- 1896م) :(إننا لا نبصر الكون إلاّ من خلال ذواتنا, ولا نرى هذه الأشياء إلاّ حسب أذهاننا لأننا في الواقع لا ندرك الأشياء ذاتها, ولا نرى فيها ولا نحس إلاّ أنفسنا. فمعرفتنا للأشياء صادرة عن إحساسنا بها, بل إنّها نحن)(19).
من هنا يتوضح لنا أننا ندرك الرمز بوساطة إحساسنا به. هذا الإحساس الذي يترجم إلى حركة وهزة قوية تتولّد في عمق النفس لترشدنا إلى معنى آخر نستدل عليه بوساطة ذلك.
لذا يمكن القول أنّ الرمز في حقيقته, هو (تعبير عن جوهر الأشياء)(20), لذا نرى إنّ الرمزيين بالغوا باستعمال الغريب من الصور التي كان منشأها استلهام الأحلام وعالم اللاوعي.
وبما أنّ الصورة أقدر من الفكرة المجردة على اختزان العاطفة ونقلها, كما يرى بعض علماء النفس, لذا حاول الشاعر نقل شعره من الشكل المحسوس إلى عالم الصورة غير المحسوسة, مستعينا بالإيحاء والتلميح.
ومهما يكن من أمر الرمز وأهميته فإنّ بعض الدارسين يرون (أنّ الصورة أكثر إيحاء من الرمز, لأنّ هذا يدل على شيء واحد. أما الصورة فتحتمل أكثر من معنى, تؤثر فيها الهزّات العاطفية, فتختلف استجابة القارئ لها باختلاف تجربته الشخصية)(21).
هوامش ومصادر:
1-. يرى بعض الكتّاب أنّ الرمزية ظهرت بين عام 1866- 1876م,ويحددها بعضهم بين الأعوام 1800- 1900م. ينظر : الرمزية والرومانتيكية في الشعر اللبناني/ امية حمدان / الجهورية العراقية / وزارة الثقافة والإعلام / دار الرشيد للنشر1981,ص23
2- ينظر: الأدب ومذاهبه / د.محمّد مندور / دار نهضة مصر للطباعة والنشر – ط/ 2,ص21
3- ينظر: الرمز والرمزيّة في الشعر المعاصر/ د.محمّد فتوح احمد / دار المعارف مصر- 1977م ,ص73.
4- ينظر: مذاهب الأدب الغربي وظاهرها في الأدب العربي الحديث / د. سالم أحمد الحمداني ,ص233 ,كما ينظر: الرمز والرمزية في الشعر المعاصر,ص83.
5- ينظر: أثر الرمزيّة الغربيّة في مسرح توفيق الحكيم / تسعديت آيت حمودي / سلسلة النقد الأدبي / دار الحداثة / لبنان – بيروت ,ط/1 – 1986م ,ص19.
6- ينظر: الرمز والرمزيّة في الشعر المعاصر/ د.محمّد فتوح احمد / دار المعارف مصر- 1977م ,ص73.
7- ينظر: م .ن ,ص23.
8- ينظر: تمهيد في النقد الحديث / روز غريب/ دار المكشوف / ط/1 بيروت – لبنان 1971م , ص 209.
9- ينظر: الأدب المقارن / د.محمّد غنيمي هلال ,دار العودة/ ط/3 1981,ص401.
10- ينظر:م.ن
11- ينظر: م.ن
12- ينظر: م. ن
13- ينظر: المذاهب الأدبية / د.جميل نصيف التكريتي / دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد ,ط /1 – 1990 ص306.
14- ينظر: مجلة آفاق عربية / العدد 2 / تشرين الأول 1977م ,ص 137.
15- ينظر: كتاب السيّاب النثري / جمع وإعداد وتقديم / حسن الغرفي – منشورات مجلة الجواهر – فاس 1986م,ص116.
16- ينظر: م.ن .
17- ينظر: الأدب ومذاهبه / د.محمّد مندور / دار نهضة مر للطباعة والنشر ,ص108.
18- ينظر: مجلة آفاق عربية / العدد 5 / كانون الثاني 1978م ,ص20.
19- ينظر:أثر الرمزيّة الغربية في مسرح توفيق الحكيم / تسعديت آيت حمودي / سلسلة النقد الأدبي /دار الحداثة / لبنان – بيروت ,ط/1 – 1986م ,ص23وما بعدها.
20- ينظر: تمهيد في النقد الحديث / روز غريب/ دار المكشوف / ط/1 بيروت – لبنان 1971م ,ص 209.
21- د. مصطفى ناصف , ينظر: م.ن ,ص231.

تشرت في الولاية العدد 122

مقالات ذات صله