مبادئ إدارة الجودة الشاملة في الفكر الإداري لأمير المؤمنين (عليه السلام)

مصطفى القاضي

تسلم أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) الحكم في مجتمع ورث الفساد بكل اشكاله المالي والإداري والسياسي, وكانت تنتظره مشاكل معقدة وكثيرة على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت تعاني منها الأمة الاسلامية وبشدة آنذاك، فبدأ الإمام (عليه السلام) بسياسته الثورية الإصلاحية الجديدة التي اتبعها من أجل تحقيق الأهداف التي قبل بالحكم من أجل تحقيقها، ولم تكن هذه الأهداف شيئا مرتجلآ اصطنعه لأجله يوم ولي الخلافة, وإنما كانت منهجآ مدروسا ومنتزعا من الواقع الذي كان يعانيه المجتمع الإسلامي آنذاك، ومعدة للسير بهذا المجتمع الى الإمام ومهيأة لمنح هذا المجتمع المطامح، التي لطالما كان يتطلع إليها المجتمع الإسلامي في تلك الحقبة التي مر بها.

سياسة الإصلاح
بدأت السياسة الاصلاحية للإمام (عليه السلام) بوساطة تغيير الوجوه التي كانت السبب الأساس في تدهور أوضاع الدولة الاسلامية والأمة بأكملها, ومن ثم وضع الأسس العامة التي تكفل الاستعمال الامثل للموارد المادية والبشرية في المجتمع من اجل تحقيق العدالة والرفاهية الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الاسلامي.
إن حلقة التحسين المستمر في سياسة الامام علي (عليه السلام) الادارية قد بدأت بوساطة وضع معايير جديدة في اختيار الأفراد العاملين وعماله على البلدان الاسلامية وقادة الجيش والقضاة, إذ أن الدولة تحتاج إلى العناصر المادية والتنظيمية التي تتفاعل مع بعضها البعض لتحقيق أهدافها، ويعد العنصر البشري من أهم العناصر السابقة كونه قادرا على تحقيق الاستعمال الامثل للعناصر المادية والتنظيمية والمزج بينهما بما يحقق أقصى كفاءة ممكنة ولهذا أولى الإمام (عليه السلام) أهمية استثنائية في اختيار الأفراد العاملين وتعيينهم على أسس علمية بناء على الاستعداد والصلاحية والقدرة على تحقيق الأهداف، محددآ جملة من المعايير لاختيارهم ومن هؤلاء الولاة الذين اختارهم الامام علي (عليه السلام) هو مالك الاشتر النخعي الذي ولاه الامام (عليه السلام) على مصر ويصف الامام (عليه السلام) واليه الجديد على مصر بوساطة ما وصفه هو به (عليه السلام) كما ورد في الكتاب الذي بعثه اليه الوارد في نهج البلاغة في الجزء الثالث حيث يقول (عليه السلام): ((من عبد الله امير المؤمنين إلى القوم الذين غضبوا للهِ حين عصي في أرضه، وذهب بحقه, فضرب الجور سرادقه على البر والفاجر، والمقيم والظاعن، فلا معروف يستراح اليه ولا منكر يتناهى عنه، أما بعد فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله لا ينام أيام الخوف ولا ينكل عن الاعداء ساعات الروع، أشد على الفجار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له واطيعوا أمره فيما طابق الحق، فإنه سيف من سيوف الله، لا كليل الظبة، ولا نابي الضريبة، فان أمركم ان تنفروا فانفروا، وإن أمركم ان تقيموا فاقيموا، فانه لا يقدم ولا يحجم، ولا يؤخر ولا يقدم إلا عن أمري، وقد اثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم وشدة شكيمته على عدوكم)).(شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج16 ص156)
اذن هذه الصفات القيادية التي يتمتع بها مالك الأشتر التي ذكرها أمير المؤمنين (عليه السلام) هي القيادة التي تقع عليها المسؤولية لتهيئه الموارد المادية والبشرية لتحقيق متطلبات الرعية، وتضمن العهد معايير اختيار الموارد البشرية اللازمة التي تعمل على تحقيق حاجات ومتطلبات الرعية.

اختيار العمال بعيداً عن المحسوبية والمحاباة
وحين نرجع إلى عهد الإمام أمير المؤمنين الى واليه على مصر نجد ان الإمام (عليه السلام) اوصى مالك الأشتر باختيار الوزراء الذين لم يعملوا مع حكومة سبق أن ظلمت الرعية، وأن يتمتعوا بقدرات وقابليات تجعلهم قادرين على اتخاذ القرارات التي تخدم الناس , وكذلك أوصى (عليه السلام) باختيار العمال بعيدا عن المحاباة والمحسوبية، وأن يكون تعيينه على أساس القدرة والممارسة وحدد المعايير اللازمة لاختيار قادة الجيش, فأوجب أن يكون القادة في الجيش من أصحاب النزاهة والأمانة والعفة، وأن يتمتعوا بالصبر والصمود وسعة الصدر والحلم والقدرة على ضبط النفس والشجاعة والاقدام في ساحة المعركة, وكان (عليه السلام) قد أوصى مالك باختيار القضاة الذين يكونوا من اصحاب الخبرة وواسعي الاطلاع، وقادرين على ايجاد الحلول الملائمة، وأن يكون نزيها، ولا يضعف أمام المال، وقادراً على تحقيق العدل والإنصاف.

ترسيخ قيم العدل
من ذلك نستنتج أن الصلاحيات والمسؤوليات التي القاها أمير المؤمنين (عليه السلام) على عماله والقضاة والوزراء وقادة الجيش رسخت ما كان سعى اليه (عليه السلام) في دولته، التي ركزت بشكل كبير على العدل والإنصاف الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من المعالم السامية لحكومته (عليه السلام) هذا من جانب ومن جانب آخر ركزت أيضا على الأسس والأطر الحقيقية اللازمة لبناء حكومة مدنية قائمة على أساس عملي وعلمي من الجانب الآخر .
فعلى مستوى القيادة (الولاة) يحدد الإمام (عليه السلام) الوظائف والمسؤوليات الملقاة على عاتق الوالي بوساطة حث الولاة على عدم الطمع وكثرة الورع وحسن النية والعمل في البلاد وخدمة العباد، فالوالي كما يراه الإمام (عليه السلام) هو مميت الباطل ومحي الحق والعدل والانصاف والعمل الصالح الذي يخدم الأمة، وكذلك أعطى دوراً كبيراً للوزراء بوساطة الواجبات الخطيرة التي القاها على عاتقهم، وكذلك فإن مسؤولية الإدارة المالية في الدولة تتوزع وفقاً لهيكل اداري متكامل مؤلف من جباة الضرائب، وخزان بيت المال، وعمال الصدقات، وعمال الجزية, أما على صعيد القضاة فقد أولى (عليه السلام) أهمية بالغة لهذا الركن الحيوي من الدولة، فقد منح القضاة درجة رفيعة ومنزلة عظيمة في الدولة، إذ أوجب عليهم الاستقلال التام عن السلطة السياسية في البلد، ليتسنى لهم فض النزاعات بين الناس بالعدل، وفقا لأحكام الدين الاسلامي، وجعل هذا الركن الحيوي والمفصل المهم من أجهزة الدولة، محمياً من الانحرافات والانجرافات، لكي لا يكون هناك مجال للظلم والاستغلال من ذوي النفوذ في السلطة، أو أن يكون بمقدور الأقوياء إيذاء الضعفاء أو سلب حقوقهم.
إذن نفهم مما سبق أن المواصفات القياسية الدولية تبين المتطلبات الخاصة بنظام إدارة الجودة، وعلى النظام تطبيقه بشكل فعّال، من أجل إيفائها بالأهداف المعلنة، عليها الالتزام بالمتطلبات التشغيلية لمواصفات محدودة، فضلاً عن إدارتها وفق منهج علمي، يهدف الى تحقيق المخرجات المطلوبة التي تفي بالمدخلات.

المنهج العملي لإدارة الدولة
نلاحظ بوساطة ما تقدم ذكره أن الإمام علي (عليه السلام) اعتمد منهجا عمليا وشاملا ومتكاملا لإدارة الدولة، وفقاً لمعايير محددة للإدارة العليا، لتحقيق الفعالية في ادارة الموارد المادية والبشرية، أي خلق توازن في استعمال هذه الموارد وصولآ الى الأهداف المنشودة من هذا المنهج المخطط له والمنفذ بوساطة الأجهزة العاملة في حكومته (عليه السلام), ومن هنا فإن مفهوم إدارة الجودة لدى أمير المؤمنين (عليه السلام) يبدأ بالتركيز على الرعية، وتحقيق منافعهم الاجتماعية والاقتصادية، وتأتي ادارة الجودة لدى الإمام من جوانب متعددة، وليس من جانب فردي، ومنها: الجانب القيادي، وهم الولاة والحكام على الامصار والمدن، وكذلك شكل النظام الإداري والقيادي المتبع فيها، والتأكيد على مبدأ التحسين المستمر في عمل هذا النظام الإداري والواقعية في اتخاذ القرار, وهكذا فإن أمير المؤمنين (عليه السلام)، على الرغم من كل الصعوبات والمعرقلات والمشاكل الكبيرة التي واجهت بداية تأسيس دولته (عليه السلام) لم يكتف ببناء نظام إداري جديد قائم على الحق والانصاف وخدمة الرعية بل قدم نظاما جديدا يحرص على تقديم كل ما هو كفيل بتحسين عمل هذا النظام بشكل مستمر، قائم على أساس الجودة العالية، فيما يقدم من خدمه للرعية التي تعيش في كنه النظام الإسلامي الحقيقي العادل والمنصف بين الرعية.

نشرت في الولاية العدد 123

مقالات ذات صله