علي عليه السلام أمير الزهد

بدري البدري

سيرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وحياته المليئة بالعطاء وجميل الصفات التي اجتمعت فيه حكت عن نعت العبودية فضلا عن قرب المعشوق الذي كان يعيشه (عليه السلام) فعرفه وراح ذائبا في طاعته ومتفننا في ألوان من العبودية عزَّ وجودها وندر أمثالها إلا في صفوة عباد الله المكرمين.

ومن نظر في صفحات حياة الإمام (عليه السلام) وتقلبات أحواله منذ نشأته حتى لقائه بربه وجد أن علياً (عليه السلام) كان كل همه رضا ربه والدار الباقية، فهو ما بنى داراً ليتخذها وطناً وما ارتدى ثوباً لزينة وما التذ بطعام قط وما غرته دنيا عريضة بزخرفها وزبرجها ولم يأخذ من حطامها شيئاً وإن تلونت وتزينت أمام عينيه التي لا ترى إلا نعيم الآخرة الباقي، فهو يعيش لذة يستشعرها ويسبح في نعم يراها ببصيرة قلبه ويقين دينه.
إن التذ بعض الناس بطعام طيّب وتنعم في ملبس ناعم وتوسع في مالٍ وإن كان من حل، فإمامنا كان يرى اللذة والنعيم على غير ما يراه كثير من الناس، فتراه يأكل مالا يأكل جل الناس، فكان يتناول الخبز اليابس يمضغه ويكتفي به زاداً.
رآه عدي بن حاتم وبين يديه شنة فيها قراح ماء وكسرات خبز شعير وملح، فقال: إني لا أرى لك يا أمير المؤمنين لتظل نهارك طاوياً مجاهداً وبالليل ساهراً مكابداً، ثم يكون هذا فطورك، فقال (عليه السلام):
عَلّلِ النفسَ بالقُنوعِ وإلّا طَلَبَتْ مَنْكَ فَوْقَ ما يَكْفيِهَا
وحسبنا معرفة بزهد علي (عليه السلام) ثيابه الخشنة، وثوبه المرقع الذي وصفه (عليه السلام) بقوله: لقد رقعت مدرعتي حتى استحييت من راقعها.
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): إن علياً أتى البزازين فقال لرجل: بعني ثوبين.
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين عندي حاجتك فلما عرفه مضى عنه، فوقف على غلام، فأخذ ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين فقال: يا قنبر خذ الذي بثلاثة فقال: أنت أولى به، تصعد المنبر، وتخطب الناس فقال: وأنت شاب ولك شره الشباب، وأنا استحي من ربي أن أتفضل عليك! سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ألبسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تأكلون فلما لبس علي َّ القميص مدَّ كُم القميص فأمر بقطعه واتخاذه قلانس للفقراء، فقال الغلام: هلم أكفه (أي أخيطه)، قال: دعه كما هو فإن الأمر أسرع من ذلك، فجاء (أبو الغلام) أي: (بائع الثوب)، وقال: إن ابني لم يعرفك وهذان درهمان ربحهما، فقال: ماكنت لأفعل، قد ما كست وما كسني، واتفقنا على رضى.
ويصف ابن أبي الحديد زهد علي (عليه السلام) بقوله: (وأما الزهد في الدنيا: فهو سيد الزهاد، وبدل الأبدال، وإليه تشد الرحال، وعنده تنفض الأحلاس، ماشبع من طعام قط، وكان أخشن الناس مأكلا وملبساً).
ويصف عبد الله بن أبي رافع صفة مطعمه بقوله: دخلت عليه يوم عيد، فقدم جرابا مختوما، فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً، فقدم فأكل فقلت: يا أمير المؤمنين فكيف تختمه؟ قال: خفت هذين الولدين (الحسنين) أن يلتاه بسمن أو زيت!!(شرح نهج البلاغة)
نعم هو علي (عليه السلام) وتر الصفات وصنعة ربه الذي اجتباه للإمامة حيث علم عبوديته المحضة له ونكران ذاته وذوبانها فيه، هو الذي راضَ نفسه فأمسك زمامها وأذلها لإرادته وسلك بها مسالك النجاة والفوز بالجنان ورضا الرحمن، فلا عجب من أن يأكل لقيمات من خبز يابس ويمرَّر يده الشريفة على بطنه قائلا: تعساً لمن أدخله بطنه النار، وتأدم اذا تأدم (أي جعل إداماً) بخل أو ملح، فان ترقى أو زاد عن ذلك فببعض نبات الأرض فإن زاد عن ذلك فقليل من ألبان الإبل، ولا يأكل اللحم إلا قليلا ويقول: لا تجعلوا بطونكم مقابر للحيوانات.
وصفة ثوبه تنبئك عن عظمة الزهد وهوان الدنيا بعينه، فقد كان مرقوعا بجلد تارة وليف أخرى ونعلاه من ليف، وكان يلبس الكرباس الغليظ-وهي ثياب خشنة- .
وأما الدنيا عنده فلا وزن ولا قيمة لها، بكل ما فيها من زينة وملك وتكاثر في نعمها إلا أن تكون وسيلة تنتهي إلى رضوان الله تعالى، فهو يتعامل معها على حذر، هو لا يريدها وإن أرادته ولا تمسكه حبائلها وإن قصدته بكيدها، هو حر من قيودها وفي عصمة عنها، فلا خوف عليه منها، هي من عرضت عليه ما عندها ونبذها وجفاها بل طلقها غير مأسوف عليها ثلاثة لا رجعة فيها، حيث خاطبها بقوله: (يا دنيا غري غيري، أبّي تعرضت أم إلي تشوقت؟ هيهات قد بنتك (باينتك) ثلاثة لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير (حقير)، وعيشك حقير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.
إنه أمير المؤمنين هو أمير كل فضيلة، وهو الحكيم في منطقه وفعله معاً، كان يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بوحشة الليل إذ يجعله محلاً لغزير دموعه وطويل فكره، وساحة ظفر لمناجاة ربه.
فسلام عليك يا أمير المؤمنين بما عرفت ربك، وبما خصّك من لطفه ولا حرمنا ودّك وقربك وشفاعتك.

نشرت في الولاية العدد 124

مقالات ذات صله