أبو العتاهية.. الزهد ونقيضه

الاستاذ جهاد ابو صيبع

اعتادت الطبيعة الشاعرة في كل أمة وفي كل جيل من أجيالها أن تنجب لحقبتها وأن تلد لنفسها من نجبائها رسلا يؤدون للناس رسالتها ويقضون دَينها ويوفون للحياة حقها فيكونون سريرتها النابضة وبصيرتها الوامضة – وبنودها الخافقة ولسنها الناطقة ويحيون في جيلهم دولة الشعراء الذين لمع اسمهم في عالم الشعر.

أبو العتاهية، عاش المراحل الاولى من حياته ماجنا لاهيا، انتقل من الكوفة الى بغداد وعندما اشتد عود قصيدته لمع اسمه وكان ذلك طريقا أوصله إلى حياة القصور وبذخها إذ قضى معظم حياته مع خلفاء بني العباس مادحا منتظرا عطاياهم لكن بعد ما خاب مسعاه الدنيوي بسبب عدم الفوز بمن يحب لجأ الى الزهد والتصوف ليسقط عن نفسه كل الأوزار وكل أعباء الدنيا.
تعود أصول أبو العتاهية إلى قبيلة ( عنزه ) وهناك اختلاف في تلقيبه بأبي العتاهيه اذ تشير معظم المصادر ومنها ديوانه إلى أن هذا اللقب أطلقه المهدي اذ كان يقول له أنت شخص متحذلق ومعتوه، إذ كان فيه ميل إلى الجنون، ويقول الراوي يحيى الذهلي من رواة أئمة العصر العباسي: لقب بأبي العتاهية – لأنه كان يحب الشرب والمجون، ويقول صاحب الأغاني عنه : ((غزير البحر لطيف المعاني سهل الألفاظ كثير الافتتان قليل التكلف)) وقال الأصمعي شعر أبي العتاهية كساحة الملوك يقع فيها الذهب والجوهر والتراب والخزف والنوى، في حين قال عنه سلم الخاسر أحد شعراء العصر العباس: أبو العتاهية أشعر الجن والإنس، وأبو العتاهية أول من تمرد على قواعد الفراهيدي في علم العروض والقافية. وقد مات أبو العتاهية في زمن المأمون العباسي.
أبو العتاهية هو، إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني ولد عام (130هجريه 747م ) وتوفي عام ( 213 هجريه 823م )، وولد أبو العتاهية في عين التمر ـ في محافظة كربلاء اليوم ـ وانتقل إلى الكوفة، وقد كان بائعا للجرار. وقد مال إلى العلم والأدب ونظم الشعر حتى نبغ فيه، ثم انتقل الى بغداد واتصل بالخلفاء فمدح المهدي، والهادي، والرشيد، وكان يجيد القول في الزهد والمديح، وأكثر أغراض الشعر في عصره.
وأبو العتاهية كنية غلبت عليه لما عرف به في شبابه من مجون ولكنه كف عن حياة اللهو والمجون ومال إلى التنسك وشغل بخواطر الموت ودعا الناس إلى التزود في دار البقاء إلى دار الفناء، وعندما هجر الشعر دعاه الرشيد وسجنه ثم أحضره اليه وهدده بالقتل إن لم يقل الشعر فعاد الى نظمه ،وكان دميم الوجه قبيح المنظر واتفق أنه عرف (عتبة ) جارية الرشيد، وأولع بحبها وطفق يذكرها بأشعاره فعاقبه الرشيد، ولكن الشاعر استعطفه فأطلق سراحه.
دخل أبو العتاهية على الرشيد في قصره الجديد واجتمع إليه خواصه فقال له الرشيد صف لنا مانحن فيه من الدنيا فقال:
عِشْ ما بَدَا لكَ سالماً، في ظِلّ شاهقَةِ القُصورِ
يسْعَى عليكَ بِمَا اشتهيْتَ لدَى الرَّوَاح أوِ البُكُورِ
فإذا النّفوسُ تَقعَقَعَتْ، في ظلّ حَشرجَةِ الصّدورِ
فَهُناكَ تَعلَم، مُوقِناً، مَا كُنْتَ الاَّ فِي غُرُورِ
روي أن أبا العلاء المعري كان اذا أراد إنشاد شيء من شعر أبي العتاهية قال الداهية أبو العتاهية وتلك العبارة من أبي العلاء المعروف بصراحة وصفه وعمقه.
وجد أبو العتاهية نفسه مضطرا ان يرجع إلى بيئته وطفولته، لعله يجد فيها بصيصاً من الضوء على ما اكتنف حياته من غموض واضطراب، لأن هناك انقلابات واضطرابات ظهرت في طفولته كانت تحمل ألوانا البؤس والشقاء والحرمان وما أصابه في ذلك الحين من أمراض نفسية، وكان أشد تلك الأمراض تأثيرا على حياته وأعظمها إيلاما له مولده الوضيع الذي جر عليه كثيرا من الخزي وملأ قلبه حقدا على ذوي الجاه والغنى من أهل عصره، وكذلك سخطه على هارون الرشيد، واستغلال الفضل بن الربيع وزبيدة زوج الرشيد لذلك السخط، وهذان كانا ناقمين على الحياة الصاخبة العابثة الماجنة التي كان يحياها الرشيد بين جواريه الحسان وبصحبة وزيره جعفر البرمكي، لما في تلك الحياة من صرف الخليفة عن زوجته من جهة واضعاف لقدر الفضل بن الربيع من جهة أخرى وقد وجدا في أبي العتاهية ضالتهم المنشودة، فهو ساخط على الحياة، وان لا حياء له على الخليفة وحاشيته، فكان شعره خير وسيلة للتشهير بالملاهي وروادها، وخير وسيلة للحد من نشاط الرشيد في ذلك الاتجاه، ولهذا تحول الشاعر من القول في الحب والغزل إلى التزهيد في الحياة والتنفير منها ومن شهواتها وملذاتها متحاملا في ذلك على ذوي الجاه والأثرياء.
فاسمع ما يقول:
رغيف خبز يابس تأكــــــلــه في زاويــــــــة
وكوز ماء بارد تشربه من صـــــافــــية
وغــرفــــــة خالـــيــة نفسك فيها راضيـــــــة
ومصــحـف تدرسه مــســتــــنـــــدا لـساريـــة
خير من السكنى بظلات القصور العالية
من بعد هذا كله تصـــلــى بـــنـــــار حامية
واسمع ما يقول في الزهد:
أنـــا باللـــه وحـــــده وإلــــــيــه إنما الخير كله في يديه
أحمد الله وهو ألهمني الحمد على المـــن والمـــــزيــد لديه
كم زمان بكيت منه قديما ثم لما مضى بكيت عليــه

نشرت في الولاية العدد 124

مقالات ذات صله