النظرية والتطبيق في فكر الإمام علي(عليه السلام)


رياض الخزرجي

لاشك أنّ فكرَ أمير المؤمنين(عليه السلام) قد سبق زمانه بكثير، وتفوّق على علماء ومفكري عصره، وإلى يومنا هذا يعيش مفكرو العالم على فتات أفكاره فهو فيلسوف ومفكر وعالم الأمّة الأول بعد رسول الله(صلى الله عليه واله).

كثيرا ً ما نقرأ بين طَيّات نهجه البليغ أفكاراً ونظريات فاقت الخيال، وحيّرت العقول وأحرجت من كان قبله، وأعجزت من جاء بعده، فتجد له في كل زاوية من زوايا الحياة ومضة فكرٍ تنير الدرب لمن يريد السير على نهجه، ويحث الخطى نحو لآلئه التي نثرها على رؤوس العباد، ولكن لم نجد من يتلاقف هذه اللآلئ ليصوغها صياغةً تليق بها وبقائلها، وهنا لابد لنا من أن نشير إلى بعض نظرياته التي وضّفها في خدمة البشرية، فقد جاء في عهده لمالك الأشتر(رض): {ثُم اْعلَمْ يا َمالِكُ، أنّي قدْ وجَهْتُكَ إلى بِلادٍ قدْ جرَتْ عليْها دوَلٌ قبْلَكَ، منْ عدْلٍ و جوْرٍ، وأنّ النّاسَ ينظُرُونَ منْ أُمورِكَ في مثْلِ ما كُنْتَ تنْظُرُ فيه منْ أُمُورِ الولاةِ قَبْلَكَ، ويقُولونَ فيكَ ما كُنْتَ تَقول فيهمْ، و إنّمَا يًسْتَدَلُّ على الصّالحينَ بمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ على اَلْسُنِ عِبَادِهِ، فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذّخَائِرِ إلَيْكَ ذَخيرَةُ الْعَمَلِ الصّالِح}(نهج البلاغة)، نجد في هذا المقطع من العهد أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) يعرض نظرية (الرقابة الجماهيرية على الحاكم)، في هذه النظرية العملاقة يريد أمير المؤمنين(عليه السلام) أن يضعَ أساساً متيناً لأهمية رأي الجمهور – والذين هم الرعية – وهذا هو أساس (الديمقراطية الإسلامية) إن صحّت العبارة، فالكثير اليوم نجدهم يتبجحون بمصطلح الديمقراطية ويتشدقون به ولكن لم يدركوا أو يفهموا المعنى الحقيقي للديمقراطية التي أرادها الإسلام والتي هي نفسها التي دعا إليها أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقد أعطى الإمام مكانة بالغة للرعية لأنهم أساس البناء القويم للمجتمع، فمن أراد أن يبني دولة ذات أسس متينة عليه أن ينظر لشعبه وناسه ماذا يريدون وكيف يفكرون و إلى ما يحتاجون؟
ولكن هل اكتفى سلام الله عليه بعرض هذه النظرية فقط أو كان مطبقاً لها قبل أن يطلقها لتكون مساراً للأمراء والحكام؟! نعم لقد كان أول المطبقين لها بوساطة ما تنقله الروايات المستفيضة في هذا الجانب، نعم هو الخليفة ولكن عندما يرى امرأة ثُكِلت بزوجها في إحدى الحروب وفقدت معيلها يذهب معها إلى بيتها وهي لا تعرفه، ليخفف من آلامها فيطعم أطفالها العسل والتمر والجوز ويخبز لها، وفي نهاية المطاف يطلب منها أن تصفح عنه..
يشير أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا العهد إلى نظرية (أهمية العمل الصالح)، فهو يعتبر أهم شيء يتركه الإنسان كذخيرة وكنز يعتز به في الدنيا ويفتخر به في الآخرة هو العمل الصالح على تنوع وتعدد أنواع العمل الصالح، وقد أشار سلام الله عليه في مواطن كثيرة إلى هذا المعنى، فنجده يقول: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى(البقرة: 197) والعمل الصالح هو جزءٌ لا يتجزّأ من التقوى، هذه نظريةٌ لو عمل بها المسلمون بكلّ تفاصيلها لكان وضعهم اليوم غير الذي نراه هذه الأيام من تأخّرٍ وانحطاطٍ وتخلّف عمّا وصل إليه العالم من حولنا، وهل يختلف إثنان في أعمال أمير المؤمنين(عليه السلام) الصالحة، فها هو رسول الله (صلى الله عليه واله) يقول: {ضربةُ عليٍّ يوم الخندق تعدل الثقلين(السيرة الحلبية: 2/320)، فأيّ عمل جهاديّ هذا؟! و أيّة روحٍ نضالية روحك يا أمير المؤمنين؟!
خلاصة القول أنّ الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) كان عمله يسبق نظريته فهو المترجم الكامل لما سيقوله ويرشد به الناس، لذلك بقيت كلماته بعد أربعة عشر قرناً تهزُّ عروش الطغاة وتُنير دربَ المنصفين في العالم، فهو بحرٌ من العطاء في نظرياته وهو بحر في سيرته وأعماله، لذا على من ترك العمل وجلس لينظر ويعطي إرشاداته للآخرين عليه أن يسجّل حضوراً واضحاً في ميدان العمل أولاً لتكون نظرياته مقبولة في نفوس المتلقين، هلّا سألنا أنفسنا لماذا الكثير من المنظرين اليوم لا تتجاوز كلماته أسماع المستمعين فضلاً عن قلوبهم؟ أعتقد أنّ الجواب واضح، فإنّ من ينظّر لا يعمل بنظرياته وكأنّه غير مشمول بهذه النظريات، لذا نحن اليوم بأمس الحاجة لنظريات أمير المؤمنين (عليه السلام) التي تمسّ مختلف جوانب الحياة بحاجة لها ليس لنخطّها بماء الذهب أو نراها معلقة مكتوبة بأجمل فنون الخط في غرفنا و مؤسساتنا لتزينها، بل لنخطها بأجمل فنون الخط في قلوبنا أولاً ثم نحتفظ بها ونترجمها كواقع عملي في مسيرتنا في هذه الحياة ثانياً، فهي صالحة في كل زمان ومكان ولكل فئات المجتمع صغاره وكباره، رعاته و رعيته … فلنستقي من هذه النظريات العذبة قبل أن تجفُّ أعمارنا وحينها لا ينفع الندم…

نشرت في الولاية العدد 125

مقالات ذات صله