فكر التعايش السلمي عند الإمام علي(عليه السلام)

أ.د نـجم عبد الله الموسوي
لا يخفى عن كل ذي عقل راجح أن الإنسان يتكون من جانبين أساسين هما: (الجسمي أو ما يسمى البايلوجي، والنفسي أو ما يسمى السيكولوجي) وكلا الجانبين مهمين في حياة الفرد ونشأته، فإذا كان الجانب الجسمي مهماً لبقاء الإنسان على قيد الحياة، فإنّ الجانب النفسي مهماً أيضاً لاستمراره بالحياة وشعوره بالحياة الطيبة السعيدة الهانئة .
ومن البديهي أن تكون مسألة الأمن الاجتماعي بوصفهما حاجة نفسية ملحة ينشدها الفرد في مراحله العمرية كافة منذ ولادته الى أن يأذن الله برحيله من الدنيا، حتى أن بعض الأفراد والجماعات يجوبون الأرض شرقاً وغرباً بحثاً عن هذه الصفة وطلباً للأمن والأمان.
وحينما تشرفت البشرية بنزول الرسالة السماوية على نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) أخذت بزمام هذين الجانبين السابقي الذكر بوصفهما الأساس لتكوين الإنسان السوي، فالفرد يحيى بالجسد والنفس معا، وأن هناك حاجات جسدية وأُخر نفسية يجب أن توفر للإنسان طيلة حياته ليعيش هانئاً مستقراً.
ومعلوم أن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) خلال مدة رسالته وحكمه الشريف أرسى قواعد كثيرة صحيحة في بناء المجتمع أصبحت دليل عمل للقائمين على الانثروبولوجيا الاجتماعية فيما بعد .
ومن زاوية أخرى لشخصية الرسول محمد (صلى الله عليه واله) نجد شخصية الإمام علي (عليه السلام) الذي سار في إمرته للمؤمنين وعند توليه أمور المسلمين بالخطى نفسها التي سار عليها أخوه وابن عمه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعمل جاهدا على أن لا يحيد ويخرج عن هذه المسارات الصحيحة لبناء المجتمع المسلم الناجح .
فقراءة الإمام علي (عليه السلام) للمجتمع قراءة واقعية تتسم بقدرته الفائقة وعمله الدؤوب على خلق حالة الأمن الاجتماعي، وعمله الدؤوب على إيجاد التعايش السلمي قبل كل شيء إيماناً منه(عليه السلام) بأنّ الإنسان يتأثر بعدد من العوامل المحيطة به خلال حياته، وأهمها مجتمعه الذي ينتمي إليه فضلا عن الناس الذين يعيش معهم .
ولا أريد في هذه الكلمات البسيطة أن أذكر شواهد التعايش السلمي عند الإمام علي(عليه السلام) بقدر ما أرغب في إيضاح المبادئ الأساسية لزرع التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد، سواء كان مسلماً أم لا، وقد ركز الإمام (عليه السلام) على مجموعة من المبادئ لتحقيق التعايش السلمي في داخل المجتمع الذي يحكمه منها:
1. التركيز على بناء المجتمع على وفق أسس التعاون والمحبة والأخوة الدائمة، فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: ((عليك بإخوان الصدق، فأكثر اكتسابهم، فإنهم عدة عند الرخاء، وجُنة عند البلاء) (البحار كتاب العشرة ص51) ، إيماناً منه(عليه السلام) بأنّ ذلك يعد من أبرز الأسس التي يرتكز عليها المجتمع وتخلق روح التعاطف والتوادد والرحمة والمحبة بين الناس، فقد أوجَدَ الفكر التربوي عند الإمام علي(عليه السلام)، للعمل على إيجاد المجتمع المسلم المتعاون من خلال الاهتمام ببناء الإنسان أينما وجد، ليتربى على وفق القيم السماوية التي أكدها الله تعالى، كما في قوله جلَّ وعلا :- ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) (سورة المائدة : من الآية2).
وفي مثل هذه الحالة، لا يحتاج المجتمع إلى أكثر من نسيج يؤمن علاقة التعاون، وتوزيع الاعمال بين أعضاء المجتمع، ويؤمن لهم العدالة الاجتماعية، والحسم، والقضاء بعدل، في حالة تصادم المصالح – والعدوان – وتوفير التعليمات، والمجاملات الإنسانية التي تلطّف جو التعامل الإنساني (الآصفي، 1997 ص 15) .
فالعلاقات الاجتماعية الطيبة هي الكفيلة بأن تجعل المجتمع متماسكاً، ويعيش أواصر اللحمة والتضحية، وهي النسيج الرابط فيما بينهم .
وبذلك فإن الصلة والرابط بين الإنسان وأخيه الإنسان تعمق الشعور بالود، والتعاطف، والتقارب، بين أفراد المجتمع الإسلامي، ومختلف أفراد بني البشر، بعيداً عن اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو العرق، قال تعالى:- ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) (سورة الحجرات الآية 13) فكانت علاقات الإمام (عليه السلام) الاجتماعية متينة وطيبة حتى مع الذين يختلفون معه في الدين أو الفكر، حتى ضرب أروع وأجمل صور التوادد والتعاطف الإنساني مع الآخرين، الأمر الذي دعاه الى أن يكفل حقوقهم وامتيازاتهم بغير بخس أو نقص أو منٍّ أو أذى.
2. العمل بجد وحزم على إشاعة ثقافة المساواة بين الناس، وأنه لا توجد أفضلية لشخص على آخر، فرؤيته(عليه السلام) أنه يجب السعي الحثيث لكي تلغى كل عوامل التمايز السطحية التي أوجدها الناس التي تدفع إلى العلوّ والفساد داخل المجتمع، والاختلاف والنزاع والكراهية والحقد التي تجعل من بعض الأشخاص ينظرون بأعين الاستصغار والاحتقار للآخرين ظانّين أنّهم أعلى مرتبة من الآخرين.
فكانت القاعدة الأساس في تربية المجتمع المسلم على وفق نظرته الشريفة، هي إعداد الفرد إعداداً يؤهله أنْ يكون فرداً صالحاً، وعضواً نافعاً، وكائناً اجتماعياً متكيفاً، مع المجتمع الإنساني الذي يعيش فيه مبتعداً عن الاعتداء والكراهية والحقد والبغضاء والتعالي والتكبر والتفاخر .
فالمجتمع مركب من فئات مختلفة ليس لأحد حق أن يعتدي فيه على الآخرين، وليس هناك طبقة أو فئة أفضل من أخرى، وليس للفرد الحق أن يُسعد على حساب الآخرين، والمساواة من وجهة نظره تشمل كلّ مناحي الحياة فهي: (مساواة أمام القانون، مساواة في العطاء، المساواة في إعطاء الفرص المتكافئة لإشغال المناصب الحكومية، المساواة بين أصحاب القوميات الأخرى والأديان المختلفة) .
قال(عليه السلام) : ((إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلاّ بما متّع به غني، واللّه تعالى سائلهم عن ذلك))(نهج البلاغة : ص ٥٣٣،الحكمة ٣٢٨) .
وحينما ولي أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أعلن قراره القاضي بالمساواة التامة بين الناس في العطاء، من أجل إشاعة العدل في توزيع الثروة وإلغاء أسباب التمايز بين الناس، فكان قرار انتزاع قطائع بني اُمية وقرار التسوية من أول القرارات التي اتخذها علي (عليه ‌السلام) في اليوم التالي من البيعة وطبّقه عملياً في اليوم الثالث، وتحمل مزيداً من العناء في هذا السبيل. (الكعبي، ص 134 1429هـ).
فقد أوجد الإمام (عليه السلام) في مجتمعه فكرة أنّ الكل محترمون على اختلاف قومياتهم وأديانهم وانتمائهم العشائري، وأن الكل متساوون لديه، وليس فيهم أفضلية ولا أسبقية لأحد عنده، وحاول قدر الإمكان أن يزرع هذا الانطباع لدى رعيته امتثالاً لرغبة السماء في أن يكون هذا المجتمع متساوياً من النواحي كافة.
3. احترام حرية الإنسان الفكرية: إنّ من السمات الواضحة في تجربة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) السياسية هو سعيه الحثيث نحو إيجاد وتوسيع دائرة الحرية السياسية وفتح السبل، سواء أكانت بحرية القول والفكر والرأي، أم بالعمل وتبنّي المواقف إزاء الأحداث السياسية، فقد كفل الإمام(عليه السلام) حق اختيار الخط السياسي لكل مواطن في أصقاع دولته، وشملت هذه الحرية حتى مناوئيه(السعد 2012 ص 145).
فالذي يستقرئ فترة حكمه الشريف يجد أن هناك تيارات سياسية معارضه له أخذت كل حريتها في بيان رأيها فيه وفي نظام حكمه الشريف، ولم يكن يتصدّى لهم بالقوة أو بالسيف مثلما يفعل الآخرون، ولم يحاربهم في عطائهم ولم يهدم دورهم ولم يشردهم، وبذلك ضرب لنا أروع صور التعايش السلمي بين الحاكم ورعيته، الأمر الذي انعكس إيجاباً على المجتمع الذي عاصر أمير المؤمنين (عليه السلام).
ففي رؤياه أن سلب حرية الفرد الفكرية أو إجباره على اعتناق دين أو مذهب أو تيار سياسي يُعد اغتصاباً واضحاً لعقلية الفرد وتعدّيا صارخا على شخصيته، فلابد للفرد أن يمارس دوره ويبدي رأيه في الحاكم ونظام الحكم من دون أية تبعات قانونية، بشرط عدم الإضرار بمصلحة المجتمع وعدم الاعتداء عليه .
ثم أنّه (عليه السلام) طالما يذكّر أصحابه ومواليه وأتباعه ومجتمعه الذي يعيش فيه أنّ الإنسان يجب أن تحترم حريته الفكرية ولا يجبر على اعتناق دين أو مذهب إلا بوساطة قناعة متكاملة، وأنّ الإنسان لا يضرب أو يقتل أو يهان لمجرد اختلافات فكرية .
4. إشاعة ثقافة احترام النظام العام وتطبيقه من دون تمايز: شرع الإمام علي (عليه السلام) على تبصير المجتمع الذي يعيش فيه على ضرورة احترام النظام الحكومي وعدم التجاوز على الأحكام الشرعية حتى فيما يتعلق بغير المسلمين، ومن جهة أخرى فإن القانون الإسلامي ليس محدود التطبيق بل إنه سوف يُطبّق على أي فرد يخلُّ به من دون تمايز مع الأفراد الآخرين فلا توجد درجة تفضيل لفرد على حساب الآخرين.
وعلى رأي الشيخ الآصفي: أن علياً ملتزماً بالقانون تجاه المتخلفين من القانون مهما كان المذنب يتمتع بالحصانة العشائرية أو المالية (الآصفي، 2012 ص 38) .
ومن جانب آخر فإنّه (عليه السلام) لا يسمح لأي شخص أن يتجاوز على فرد آخر أو يحطّ من قدره وقيمته وكرامته، فإنّ الجميع يجب أن يعيشوا بسلام وأمان على مختلف مشاربهم ومن يتجاوز فإن القانون سوف يردعه.
فعلي(عليه السلام) يحارب الطائفية أشد محاربة ويتشدّد على كلّ أساليب الاعتداء والعنف والظلم بين الآخرين، لأنّها تشكل بحق أزمات اجتماعية، وتخلُّ بأمن المجتمع والدولة الحاكمة، فنراه يعمد إلى إشاعة روح العيش بسلام وعلى الاحترام المتبادل، وتكوين مجتمع آمن مطمئن ينعم بالعيش الآمن هانيء.
وعلى الرغم من أن المجتمع الذي يقوده الإمام علي (عليه السلام) كان مجتمعاً قبلياً متعصباً، فإنّه استطاع باعتماده على الله تعالى وبرجاحة عقله وحكمته وسلوكه وحزمه وقوته أن يجعله مجتمعاً ينطلق نحو التعايش السلمي بين أبناء طبقاته كافة، والمعروف عن الإمام علي (عليه السلام) توجهه نحو السلم دون الحرب إلّا عند الاضطرار، وبعد أن يستنفد كلّ الحجج والأدلة المقنعة تجاه حل المشكلات بوساطة العقل لا السيف.
فعلي (عليه السلام) مولعاً بحب الخير للناس والعفو والصبر والتسامح والسخاء، وعدم الاكتراث للأعداء، متطلّعاً إلى خدمة الناس، فهو(عليه السلام) إمام يحب أن يشيع ثقافة التعايش والتسامح واحتواء الآخرين، و يجعلها بدلاً من العنف والإرهاب والتعسف والظلم والطغيان.
في الختام لابد أن نذكر أن الإمام علياً (عليه السلام) وعلى حد تعبير علماء الاجتماع، هو رائد ومؤسس حركة التعايش السلمي في المجتمع بما مثّله من قيم إسلامية حقيقية، وما كان يحمله من نبل الأخلاق وسموّ النفس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
– القرآن الكريم .
– نهج البلاغة، تحقيق محمد عبده .
– الآصفي، محمد مهدي: الثقافة القيادية والإدارية عند أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع)، ط1، الناشر العتبة العلوية المقدسة، 2012م.
– السعد، د.غسان : حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) رؤية علمية، ط1، دار الرافدين، بيروت 2012م.
– الكعبي، علي موسى : معالم الإصلاح عند أهل البيت (عليه السلام)، ط1، إصدار مركز الرسالة، مطبعة ستاره، قم المقدسة 1429هـ .
– المجلسي، محمد باقر ت (1111هـ)، بحار الانوار : ط1، مؤسسة الوفاء، بيروت 1983م.

نشرت في الولاية العدد 127

مقالات ذات صله