حسينيا ينطق الدم شعراً

م. م ختام محمود الغراوي

مثلت واقعة كربلاء الدامية انعطافة تأريخية مهمة بوصفها الواقعة المتفردة في التأريخ بحجم المأساة التي لا يستطيع الدهر أن يتناساها، فلا وجود لمثيل لها من الوحشية التي قابل بها جيش بني أمية الكثير العدد والعدة الإمام الحسين وأهل بيته(عليهم السلام) وأصحابه(رضوان الله عليهم)، وما رافق ذلك المشهد من ممارسات بعيدة عن الإنسانية كمنعهم الماء عنه ومحاصرته وقتل رجاله وأطفاله وسبي نسائه وهو ابن بنت نبيهم (صلى الله عليه وآله)، فتعدت مأساته حدود المأساة وأصبحت صرخة مدوية في ضمير الإنسانية ضد الطغيان والجبروت، واستلهم منه الثوار قوتهم، وانعكست صلابة موقفه على أصحابه فحذوا حذوه، وهو الغريب الوحيد الذي فقد الناصر في كربلاء ومني بخذلان من أطاع هواه فوقف يقاتله من أجل دنيا غيره، وانعكست على الكثير من الاتجاهات، وانتجت تلك الواقعة سيلا من القوة الدافعة تجاه الحرية، وإلى جانب ذلك استلهم الأدباء والشعراء من الحسين (عليه السلام) موضوعات كتاباتهم وقصائدهم في الماضي والحاضر.
تفجـّر الإبداع على مذبح الحرية
فقد انتجت واقعة كربلاء كمّا أدبياً هائلاً، نتيجة للحزن الذي خلدته في تأريخ الإنسانية بشكل عام، وكان من الطبيعي ترجمة هذا الحزن والذهول بقصائد شعرية كثيرة من تأريخ الواقعة العصر الحديث، ولاسيما أن ما مثلته كربلاء من ثورة وتضحية واستنهاض للضمير الانساني ورفض للظلم والعبودية يمثل مطلباً لعامة الناس وخاصتهم باختلاف أديانهم ومشاربهم، يزاد على ذلك أن الأئمة (عليهم السلام) شجعوا على النظم لرثاء الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) ووعدوا الشعراء بالثواب الجزيل، ناهيك عمّا كانوا يغدقونه عليهم من الهبات السخية تكريما لهم على نظمهم تلك القصائد، فسالت الأقلام على رمال كربلاء الحارة، وتفجر الابداع الشعري رثاءً وبكاءً وجزعاً على مذبح الحرية المصبوغ بدمه الطاهر، فنرى التأريخ يحتفظ بأسماء من كتب الشعر في الحسين (عليه السلام) كالكميت ودعبل الخزاعي وديك الجن وغيرهم الكثير، وهكذا حتى صارت إلى جانب أهميتها الدينية والإنسانية عرفاً اجتماعياً، تخلل مراثيهم ومجالس عزائهم وحزنهم على أحبتهم ولا يمكن أن يرسخ العرف الاجتماعي في بلد ما ولا يدخل مجال الشعر والادب بشكل عام، وحينمـا يرسـخ العـرف الأدبي، فإنَّه لا بد مـن أن يكـون قـد اسـتجاب لهمـوم جملة من الشعب بل لعله استجاب لأغلبية الشعب.
نبوءة الذبح المقدس
وتروي الأخبار أن هذه المذبحة ذكرت في المورثات الدينية القديمة، والأنبياء جميعا من آدم الى محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) كانوا على علم بها، والكثير من اتباع الأنبياء كانوا يبكون ويندبون ذلك الذبيح المقدس فبنوا الأديرة والكنائس والمعابد بالقرب من أرض الواقعة، وهي صحراء نينوى و التي يطلق عليها اسم (النواويس) وأخبر بذلك الإمام الحسين (عليه السلام) يصف محل مقتله بقوله ( بين النواويس وكربلاء)، بل أن بعض الابيات الشعرية التي كتبت في تلك الواقعة لم يعرف كتابها كالبيت الشعري المكتوب على لوح في أحد الكنائس في إيطاليا وعمره 7000 الاف عام والذي خلد قضية الحسين (عليه السلام) قبل ظهور الإسلام بقوله:
أترجو امة قتلت حسينا شفاعة جده يوم الحساب
لذلك انبرى الشعراء ينظمون وافرا من الأبيات في استلهام تلك الواقعة، ودخل موضوعها في الشعر الملحمي والمسرحي والغنائي والقصصي، ومما انفردت به واقعة الطف أن ألوانها الشعرية تتجدد وتكثر بتقادم الأزمان، ومع أن جميع تلك القصائد تلتقي بالألم المفجع الذي خلدته كربلاء إلا إن كل واحدة منها وعلى الرغم من كثرتها استطاعت أن تجد لها انفراداً عن غيرها فكل شاعر يكتب من منطلق مختلف عن الآخر وبتنوع عجيب لم تحظ به أية واقعة أخرى قط، ووجدت له مكانا بين الشعر الحر والعمودي والمنثور والمرسل والرباعيات، وصاغوا قصائدهم باللغة العامّة والفصيحة.
جمالية وقداسة العشق
وفي الوقت الذي وصفت به القصائد القديمة مصاب سيد الشهداء وأهل بيته بألم وتجرد حتى كأن كتابها باستحضارهم جسد الحسين (عليه السلام) على رمال كربلاء يعيشون واقع المأساة ويتجرعون غصص المعركة، ويترجمون ذهولهم من فجيعة ما حدث، فان القصائد الحديثة ومع أنها امتداد للمراثي السابقة وصفت إلى جنب ذلك منطلق الشهادة وجمالية الروح وقداسة المضمون وتفرد المقتول وانتصاره على الظالم وترجمت قصائدهم عشقهم الأبدي لسبط رسول الله (صلى الله عليه واله) وقد عبر عن هذا المعنى احد الشعراء(1) بقوله:
للآن ترشدنا وتلهم عشقنا فهواك في الوجدان غير مغيب
وهواك في الشدات يصقل صبرنا فيهب إيثار لنا لم ينضب
ونجود لم نأبه بأي كريهةٍ فلقد عشقنا النهج دون تهيب
ولقد بذلناها الدماء رخيصةً كي نرتقي بإبائنا المتوثب
ولقد بذلناها ولما تنته فدماؤنا فيّاضة لم تجدب
واستلهموا من مشهد كربلاء صورة أخاذة من العطاء والعشق فتراهم ينظمون عشقا وثورة تترجمه قصائدهم كقول الشاعر:
هذي القباب ملاذ جل رافعها يبقى الحسين وإن عاثوا وإن نعقوا
هذي القباب شموس كيف يطفئُها ليل البغاة وهم في نورها احترقوا
هذا الحسين أبو الأحرار مدرسة للثائرين فمن مصباحه انطلقوا(2)
وقول آخر (3) :
حنان كما الأم الرؤوف بابنها وظل لمن رام السلام ظليل
وحرب على كل الطغاة بلا سوى فحصباؤها للثائرين قتيل
معادلات التضاد والخلود
لقد دخلت كربلاء في مختلف أغراض الشعر لا في الرثاء وحده فتراها في المدح والوصف والحكمة والاعتذار والفخر فضلا عن الغزل، ولم تكن كربلاء في الشعر الحديث أرضا وإنما كانت سماءً متسعة لا حصر لها، ولم يكن ذلك الدم القاني الذي طهر الرمل الاصفر إلا كوثرا من جنة الفردوس، فصوروا ذلك الرمل اللاهب الذي يستلقي إلى جانب العذب البارد جامعين بين تلك المتناقضات التي عبرت عن مشهد سقوط الحسين (عليه السلام) على ارض كربلاء، حتى كأنهم ترجموا عجز الكون عن تلاقف تلك المتضادات التي احتضنتها كربلاء فبين جمالية القلوب ونقائها وصفاء الدعوة ووضوحها والتقائها بتلك الوجوه النبوية الحانية، وبين العطش والجوع ولهيب الحر وصوت جلجلة السيوف وقعقعة جيش بني سفيان المملوء بالحقد والضغينة العمياء، وكأنها ترجمة للضمير الانساني الذي تكبده الأهواء الباطلة، فترجم شعرهم معادلة صعبة الحل فأي جسد وأي رأس يحتزه بني أمية، وكم لهذه القلوب اليانعة بالدين أن تعطش أمام الكفر وتعاني قسوة فقدان العذب، وكأن الماء حرم على هذه الأفئدة الطاهرة فلا ماء يروي طهره إلا الكوثر.
والصور الشعرية التي انتجتها واقعة كربلاء تكاد تنطق من شدة وضوحها وانبعاثها المتكرر كلما مضى عليها الدهر فترى الأيام تجترها اجتراراً وتستلهم منها القصيدة الأخرى في سبيل الديمومة والبقاء، ولعل تجسيد الإمام الحسين (عليه السلام) وهو مسلوب القميص مقطوع الخنصر محزوز الرأس معفراً وقد صار صدره الشريف مركباً للأعوجية، صورة تكاد تنطبع في كل القصائد القديمة والحديثة إلا إنها في كل مرة تصور زاوية أخرى من القضية وتستفيدها في ذلك المنطلق، فنرى تلك الفكرة قد طرزت الشعر العربي لمدة طويلة بل انها لم تنفك تأسر الكتابات الادبية بمختلف صنوفها، فمن يمر قلمه بكربلاء لن يستطيع مقاومة الانجذاب الذي تمارسه عليه ولن يستطيع الانطلاق الى أية نقطة دون أن تكون كربلاء هي منطلقه البين لذلك.
أنا يا حسين أراك شمس عقيدتي وثبات ديني كعبتي إذ أحرم
(حسين مني) شاهد لعقيدتي وبسيفي ملقيها أصول وأهجم
ما كان (ينطق عن هوى) خير الهوى حاشاه هذا دس من يتجرم (4)
واختلفت الألوان الشعرية في النظم الحسيني واستعمل الشعراء معظم فنون البلاغة في صياغة أشعارهم فلا عجب أن يصوروا السيوف تسجد على جسد الحسين أو تقبله ولا غرابة في أن يجمعوا بين المتضادات كالليل والفجر أو أفول النجم وسطوعه حتى يصوروا ذلك الواقع الذي انبلج عن نصر بهيج، كقول الشاعر:
إذ غاب جاءتك الصوارم سجداً وبزحفها اشتبكت عليك الأسهم
قد صار نحرك قبلة لصلاتها سجدت ففاض على الجوانب زمزم (5)
هيمنة الوصف الملحمي
أن الأدب الحسيني من نثر وشعر وغيره لا يمكن أن يكون متسقا بهذا الشكل دون أن يكون هناك عدد كبير من الشعراء الذين وضعوا الخطوط البينة والواضحة له، إن القصيدة الحسينية، لابد لها من أن تتخذ من هذه اللغة التصويرية السلسة وسيلة لتتغلغل في الأوساط الاجتماعية الشعبية، لأن هذه القصائد تشق طريقها إلى أسماع الناس؛ عندما ينشدها خطباء المنبر الحسيني ليفهمها النخبة من أبناء المجتمع، كما يفهمها العامة منهم.
حتى كأن تلك البقعة التي كتب لها أن تحتضن الجسد الطاهر تمارس هيمنتها على الأقلام وتهيمن على القلوب والأفكار والضمائر الحرة بوصفها أرض القداسة والشموخ كقول الشاعر:
الله يا كربلا كم أنت شامخة كل البطولات في معناك تختصر
أنت الشعار لمن يحمي عقيدته ومنك يا كربلا تستلهم العبر(6)
لقد بينت القصائد جزءاً من مظلومية الإمام الحسين (عليه السلام) وترجمت مالم يقله الحسين(عليه السلام) صراحة واوضحت للعالم بعضاً من زوايا قضيته فكان الشعر طريقة للرفض والجهاد، ورسمت صورا حية لتلك الواقعة، وقد بينوا أنه (عليه السلام) أراد أن يلقي الحجة حين اختار ان يموت عطشاناً كما يريدون له وإلا فإن أحد كفيه كافٍ ليجعل الماء حيث صب يصب في فيه ولو شاء لجعل ماءهم تراباً يسفي في نحورهم، كان الحسين (عليه السلام) ينادي لا ليستجيب له بل ليستجيب هو لهم ان قبلوا ولينتشلهم من براثن الأثم والعبودية للطغيان وأن ينقذهم من غيابة الجهل والطمع ويمنحهم سبل العيش الكريم أو الموت بكرامة.
وفي مقابل هذه الصورة الأخاذة أدان الشعراء السلبية التي واجهت بها الأمة الحسين السبط (عليه السلام) وتقاعسها عن نصرته كقول الشاعر:
لأمة لم تحمل الراية حين شبّت السيوف
واخترقت مفاوز الصحراء خيل تمتطيها أذرع لئيمة
ترهب فارساً أتاها يزرع الحتوف في أعرق تشدها خطى محاريب
سنين شمسها رميمة (7)
وأخيرا لابد من أن نعي أن من أهم النتاجات التي أبرزها الأدب الحسيني هو هذا الإصرار الرائع على الاستمرار في العطاء الشعري الحسيني، الذي لم يتوقف منذ سنة 61 هـ وإلى اليوم.
——————-
1- الشاعر رضا كاظم جواد الخفاجي ، القصيد من وقائع المهرجان الحسيني الشعري السنوي الثالث، ص24
2- كفاح وتوت
3- عدنان الموسوي
4- وقائع المهرجان الحسيني الشعري السنوي الثالث ص51، علي الصفار
5- الشاعر حسن الفتال
6- عبود جودي الحلي
7- الفارس الصريع وكربلاء الهزيمة، راضي مهدي السعيد/مرايا الزمن المنكسر/ص196

نشرت في الولاية العدد 128

مقالات ذات صله