عبد الله شاه غازي.. بضعةٌ حسنيةٌ في بلاد السند


حيدر الجد

ضاقت الأرض برحبها على العلويين أيام العصر الذهبي لبني العباس الذين أوجدوا المدن وشجعوا نشر العلم من جهة وملؤوا السجون بالمعارضين عموماً وبني عمهم أبناء الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) من جهة أخرى، ومن رام الحياة منهم هام في الجبال والصحارى مبتعداً عن أعين العباسيين ورصدهم وقد ينجو أو يدركه الطلب فيصبح ضحية للغدر على الرغم من ابتعاده عن مركز الخلافة والحواضر الإسلامية الرئيسة في تلك الحقبة.

من بين هؤلاء برز صاحبنا السيد عبد الله الأشتر بن محمد ذي النفس الزكية بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن السبط(عليه السلام)، العلوي الذي حملته قدماه هارباً من ظلم العباسيين حتى استقرّ به المقام في السند ليلاقي حتفه هناك مقتولاً مظلوماً غريباً، وها هي إطلالة على سيرته الكريمة ومزاره المطهر الذي لا يكاد يخلو من الزائرين والمريدين.
أضواء على حياته (عليه السلام):
نصّت كتب السيرة والنسب على أن عقب محمد ذي النفس الزكية انحصر في ولده عبد الله الأشتر على الرغم من وجود أبناء لمحمد ولكنهم انقرضوا أجمعهم، وقيل هناك نسل للقاسم بن محمد وهم ملوك المغرب، وفي ذلك يشكك بعضٌ ويثبت آخرون.
لم يسلط المؤرخون أضواءً على حياته من بعيد أو قريب وإنما تأتي سيرته خلال الحديث عما تمخض عن ثورة أبيه محمد ذي النفس الزكية الذي استشهد فيها لذا فقد أغفلوا تأريخ ولادته عدا الزركلي الذي أثبت ذلك في أعلامه فقال ولد سنة (118هـ)وتوفي سنة (151هـ)(1)، فيكون عمره 33 سنة عند مقتله، أما والدته فهي السيدة أم سلمة بنت محمد بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن السبط(2) وإن كانت كتب الأنساب لا تذكر ولداً للحسن المثنى باسم محمد اللهم إلا أن يكون له ولد اسمه محمد وأنجب بنتاً فقط ومات عنها فانقطع نسله.
انفرد الزركلي بذكر صفات السيد عبد الله فقال عنه: (كان آدم اللون- أسمر- ، مديد القامة، صبيح الوجه، تام الخلق، يقاتل فارساً وراجلاً-أي مقاتل مقتدر-)(3)
ثار محمد بن عبد الله المحض بالمدينة ضد المنصور باعتباره مرشحاً من قبل أغلب العلويين والعباسيين على حدٍّ سواء في مؤتمر الأبواء الذي عُقد إبان بوادر انهيار الدولة الأموية، ولكن أبا مسلم الخراساني وأبا سلمة الخلال وغيرهما من الدعاة قلبوا الأمر وجعلوا الخلافة في بني العباس دون محمد المرشح الوحيد الذي تمت الموافقة على اختياره كخليفة وإن أبدى الإمام جعفر الصادق حذره وعدم موافقته على ذلك مخبراً عن أنّ الأمر لا يتمّ لمحمد وأنه سيقتل دونه و سيؤول لبني العباس ولا ينال الخلافة إلا صاحب القباء الأصفر على حد تعبيره(ع) مشيراً بذلك لأبي جعفر المنصور (عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس)، وقد نالها بالفعل، فقد حكم بعد أخيه أبي العباس السفاح من عام (137هـ) إلى عام (159هـ) حيث مارس أعمالا إجرامية منكرة فقد قتل كثيراً من أشراف العلويين وغيرهم من المعارضين، ولما تقلّد الخلافة كان همه الأول القضاء على محمد ذي النفس الزكية باعتبار أنه قد بايعه مرتين إحداهما بالمدينة والأخرى بمكة كما نقل أبو الفرج في مقاتله، فطلب من عامله على المدينة أن يجد ويجتهد في تحصيل البيعة من محمد وهي إقرار له بالخلافة الرسمية، فلم يبايع محمد وأعلن الثورة في مستهل شهر رجب فبايعه أهل المدينة وحبس الوالي وقويت شوكته، لكن سرعان ما تغير الوضع وانقلبت الموازين ولم يثبت معه سوى ثلة قليلة جداً لم تصمد أمام الجيش العباسي الكثيف حتى قُتل رضوان الله عليه في منطقة أحجار الزيت في المدينة المنورة في 14 رمضان 145هـ، فدفن بالبقيع جنب جده الحسن الزكي، وأخذوا رأسه للمنصور(4).
وبهذا الفصل فقد ختم عبد الله مشهداً مهماً من حياته ليبدأ مشهداً آخر في التّخفي والترحّل من مدينة إلى أخرى لأن المنصور لن يكتفي بمقتل محمد حتى يقتل ولده ليطمئن قلبه وليكون كرسيه آمناً موطداً أبد العمر.
يبدأ هنا مفترق طريق ذو رأيين، رأي يشير إلى أن عبد الله أرسله أبوه للبصرة ومعه 40 رجلاً من أتباع الزيدية فاشترى خيلا وأظهر أنه يريد المتاجرة بها، وركب البحر حتى بلغ السند وهناك نزل على أمير السند عمرو بن حفص فاستضافه وأكرمه (5)، وهناك رأي آخر نقله لنا عبد الله بن محمد بن مسعدة رفيق عبد الله في رحلته حيث قال: أخرجنا عبد الله بعد مقتل أبيه فأتينا الكوفة، ثم انحدرنا إلى البصرة، ثم خرجنا إلى السند. وهذه الرواية تظهر وجود عبد الله مع أبيه عندما نشبت الحرب وأنه كان حاضراً عند استشهاد والده(6).
في السند بقي عبد الله زهاء 6 سنين، والظاهر أنه اطمئن وأحس بالأمان هناك، فتزوج جارية سندية، أولدها ولداً يدعى محمداً، ولم يدر في خلده أن أبا جعفر سيلاحقه حتى في تلك التخوم البعيدة، فقد نقلت إلى المنصور الأخبار بأن عبد الله في المنصورة -عاصمة السند حينها- سالماً في طمأنينة ورفاهية فأرسل لعامله هناك وهو عمرو بن حفص المهلبي أن ينتقل إلى ولاية أفريقيا وعيّن بدله هشام بن عمرو التغلبي وأمره بقتل عبد الله والتخلص منه، فلما وصل هشام السند استطاع أن يصل بطريقة أو بأخرى إلى رصد تحركاته حتى وجد رجال هشام السيد عبد الله مع رفاقه على شاطئ مهران يتنزهون، فحملوا عليهم وقتلوهم وكان عبد الله أحد القتلى فحزوا رأسه المكرم وأرسلوه إلى المنصور مع زوجته وولده محمد(7)،فلما وصلوا إلى المنصور تهلل فرحاً بالتخلص تماماً من شبح طالما هدد كيان مملكته وكرسيه، ثم أوعز بإرسال الرأس مع الزوجة والطفل إلى المدينة المنورة ليعرض هناك وليعرف المعارضون أن مصير من يقف في معارضته سيكون مصير صاحب الرأس وإن ابتعد عنه آلاف المسافات.
مدفنه:
قال ابن عنبة: (وكان-عبد الله- قد هرب بعد قتل أبيه إلى السند فقتل بكابل في جبل يقال له علج، وحمل رأسه إلى المنصور)(8)، أما أبو الفرج الأصفهاني فقد قال: (خرج بعد قتل أبيه إلى بلاد الهند فقتل بها)(9)، فالذي يذهب المؤرخون إليه هو أن عبد الله قتل في الهند -باعتبار أن السند كانت جزءاً من بلاد الهند- ولكن ابن عنبة زج اسم كابل وقد يتبادر الذهن إلى كابل عاصمة أفغانستان اليوم، ولكن ما علاقة كابل بالسند؟ يمكن أن يقع الجواب في ثلاثة آراء:
الرأي الأول: إن هناك مدينة اسمها كابل تقع في إقليم السند غير كابل العاصمة.
الرأي الثاني: إن بلاد السند كانت واسعة جداً بحيث تشمل باكستان اليوم وأغلب مدن أفغانستان، وإن ابن عنبة لما ذكر كابل أراد أن يقرب للقارئ الصورة عن موقع السند فذكر أحد مدنها.
الرأي الثالث: إن هناك التباساً حصل عند ابن عنبة فكابل ليس لها علاقة بعبد الله وإنما ابنه محمد يُعرف بالكابلي باعتبار أن مولده كان في كابل، أما عبد الله فيعرف بالأشتر.
يمكن تحديد مرقده من خلال كلمة شاطئ مهران، ونهر مهران هو نهر السند (الأندز)، الذي يعد من أطول الأنهار في آسيا كونه يمر في باكستان وأفغانستان والهند بحيث يكون أحد فروعه في كابل عاصمة أفغانستان ويصب في بحر العرب في بلاد السند، والمرقد اليوم يقع في مدينة كراتشي وهي أكبر مدن باكستان كانت العاصمة قبل إسلام آباد وكانت تسمى قديماً بـ(الديبل)، وبالتحديد في منطقة كليفتون المطلة على بحر العرب، وينسبه بعض مؤرخي باكستان إلى الصوفية ويطلقون عليه اسم عبد الله شاه غازي وقد بني على مرتفع (تل رملي) يقصده الزائرون من المسلمين والمسيح والهندوس ويعتقدون أنه القديس المخلص لأنه حامي كراتشي من الأعاصير الشديدة التي تضرب تلك المنطقة المواجهة للبحر باستمرار فتحصد مئات الأرواح.
ظهر هذا المرقد لأول مرة قبل عشرة قرون كما يذكر المؤرخون ولغاية الخمسينيات من القرن المنصرم كان عبارة عن كوخ صغير يتردد عليه بعض المريدين، يقول سوهيال لاري في كتابه تاريخ السند إن شاه غازي كان تاجراً عربياً جاء إلى السند مع موجة من الغزاة العرب، ثم استقر هنا وقد تعرض إلى كمين نصبه له أعداؤه وقتلوه مع جملة من أنصاره وحملوا جسده على طول الشاطئ ودفنوه على رأس تلة بالقرب من المنطقة التي وصل إليها على متن سفينة عربية.
شهد المرقد توسعة حقيقية في عهد أيوب خان حتى أصبح من أهم مزارات باكستان على العموم وذلك بعد توسعة عام 1977م، ثم تلتها حملات إعمار وترميم لغاية عام 2010 حيث تعرّض المزار إلى قصف من قبل متطرفين ولكن المرقد نجا بأعجوبة تلت هذه العملية عمليات إعمار متتالية سنة 2015 و2017(10).
هاهو مزار السيد عبد الله الأشتر أو كما يحلو للباكستانيين أن يسموه (شاه غازي) اليوم ملاذاً لمئات الزائرين بمختلف دياناتهم وبه تفتخر كراتشي فهو حاميها من أعاصير تسونامي الرهيبة التي تتعرض لها مناطق الجوار.
المصادر:
1-الأعلام، 4/116.
2-الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، 206.
3-الأعلام، 4/116.
4-ابن عنبة، عمدة الطالب،104.
5-الطبري، تاريخ، 6/291.
6-المجلسي، بحار الأنوار،47/296.
7-مقاتل الطالبيين، 206.
8-ابن عنبة، عمدة الطالب، 104.
9-مقاتل الطالبيين، 206.
10-www.abudullahshahghazi.com

نشرت في الولاية العدد 130

مقالات ذات صله