الحج وعفو الكريم

بدري البدري

الحج ركن من أركان الإسلام وفريضة مهمة من فرائض الدين الحنيف، واجب على المستطيع مرة واحدة في العمر، قال تعالى في كتابه الحكيم: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ). (آل عمران/97)

حكمة أمر الحج:
ومن حكمة أمر الحج أن يَفِدَ الناس من كل بقاع الأرض فيجتمعون في الحرم المكي بعد أن أحرموا لدخوله بقصد عمرة أو حج ليقيموا مناسكهم من الطواف حول الكعبة والصلاة خلف مقام إبراهيم(عليه السلام) والسعي بين جبلي الصفا والمروة ويقصروا شعورهم ويحلّوا من إحرامهم، بعد إتمام أعمال عمرتهم ويتهيؤوا لأداء أعمال الحج إن كانوا قاصديه.
يلبي المسلمون على اختلاف مذاهبهم وفرقهم وألوانهم ولغاتهم وجنسياتهم دعوة ربّهم، طاعة له وانقيادا لأوامره، قال تعالى في محكم كتابه: (وَأَذَّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج/27).
يلتقي الأبيض والأسود من مختلف الشعوب والقبائل على المائدة الرحمانية بل الرحيمية، حيث العطاء، والألطاف غير المتناهية التي يتزوّد منها كلُّ حاج على قدر استعداده النفسي والروحي وتقديمه لغده، فيرجع إلى أهله ووطنه فرحاً مسروراً بما فاز به من فضل.

الوفود على الكريم:
جاؤوا ملبين طائعين من كلِّ بلدٍ ليشكّلوا صورة تتضحُ فيها ملامح العبودية، وما أجملها وأروعها من لوحة أرادها بارئها فكانت كما نراها جميعا، وهي مصداق لقول الله تعالى في بديع آياته: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(الحجرات/13)
الحج أمنية كل مسلم وهي تكاد أن تكون أمنية العمر لدى جل المسلمين، كون شرط الحج الاستطاعة وهي ليست متحقّقة عند أكثرهم، لذا فهو دعوة المؤمنين لأنفسهم ولإخوانهم في كلِّ حين وإن كانت تلك الدعوة تكثر وتتأكد في بعض الأيام والشهور المباركة كليالي القدر وشهر رمضان.
يتمنى كلُّ مسلمٍ الذهاب إلى البيت المبارك لأداء مناسك الحج ليؤدي مافُرض عليه من امتثال الواجب في فريضة الحج من جانب، وليحظى بما أعدَّ الكريم للوافدين إلى بيته من جانب آخر، فعفو الكريم يأمله الخطاؤون والمسرفون الذين لم تحدثهم أنفسهم بتوبة، أو رجوع إلى خالقهم ليتجاوز عن معاصيهم، ويعفو عن ذنوبهم، فكيف بمن يقصد ربَّه في مواطن العبادة الّتي أمره أن يكون فيها ويدعوه بها وهو مسلِّم ومتوجه إلى مولاه طالبا عفوه على الدوام، وسائلاً جوده وكرمه، وقد شاع في عرف المسلمين أن الحاج يرجع من مكّة المكرّمة بعد إتمام مناسكه مغفور الذنب كيوم ولدته أمّه.
في الواقع إنّ هذا الشياع العرفي له أصل، وحظ وافر من النصوص الشرعية فقد وردت في هذا المعنى أخبار كثيرة فيها بشائر للحاج و هي تزيد المسلم شوقا لأداء فريضة الحج المباركة.
فنجد في أخبار المعصومين(عليهم السلام) ما يُغني السائل والمستفهم عن فضيلة الحج فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: (الحاج والمعتمر وفد الله، وحقَّ على الله تعالى أن يُكرم وفده ويحبوه بالمغفرة)(الخصال ج2 /430 .)
إن من يفد على كريم لايرضى إلّا برفد وفده، فكيف بمن كان في ضيافة ووفادة أكرم الأكرمين، ومن بيده الخير كله. وممّا جاءت به الروايات الشريفة أنّ الحج ينفي الفقر والذنوب معاً. فقد جاء في الخبر عن الإمام الصادق(عليه السلام) عن جدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد.(الكافي ج4/253)
للحجِّ منافع كثيرة تعمُّ الدارين فمن أراد الدنيا فليقصد البيت، ومن كان أكبر همّه الآخرة فعليه أن يؤمَّ البيت بحجٍّ أو عمرة، فقد جاء عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: (من أراد دنيا وآخرة فليؤمّ هذا البيت، ما أتاه عبد فسأل الله دنيا إلاّ أعطاه منها أو سأله آخرة إلاّ ادّخر له منها، أيها الناس عليكم بالحج والعمرة فتابعوا بينهما، فإنّهما يغسلان الذنوب كما يغسل الماء الدرن، وينفيان الفقر كما ينفي النار خبث الحديد.(دعائم الإسلام ج1 /294 )
الناس في قصدهم الحج مراتب وهمم فكلٌّ منهم يحظى بنصيبه حسبما قدّم لنفسه وعلى قدر همته، فبعضٌ يفوز بعتق رقبته من النار، وصنف يرجع مغفور الذنب، ونوع آخر أدنى ما يكون من نصيبه أن يُحفظ في أهله وماله، كما هو المعنى في رواية عن إمامنا الصادق(عليه السلام): (الحجّاج يصدرون على ثلاثة أصناف: صنف يُعتق من النار، وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمّه، وصنف يُحفظ في أهله وماله فذلك أدنى ما يرجع به الحاج)(الكافي ج4 /251 ). ومن عزم على الحج وقدّم مقدمات الذهاب إلى الديار المقدسة، ونوى أداء نسك الحج أو العمرة، فإنْ أصابه الموت في سبيل قصده فقد تقلّب في ألوان رحمة الله تعالى، فقد رُوي عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) قوله: (الحاج والمعتمر في ضمان الله، فإن مات متوجهاً غفر الله له ذنوبه، وإنْ مات محرماً بعثه الله ملبّياً، وإنْ مات بأحد الحرمين بعثه الله من الآمنين، وإنْ مات منصرفاً غفر الله له جميع ذنوبه.(وسائل الشيعة 68/8).
من فضل الله تعالى أن يختار كل عام من يذهب إلى بيته الحرام لينال نصيبه من الألطاف النازلة على قاصدي الحج والعمرة فيغفر ذنوبهم، ويتجاوز عن سيّئاتهم، فإنّ هذا المسير يحبّه الله ويحبّ سالكيه ويهب أهله نفحات رحمته وعفوه، فقد رُوي أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) نظر إلى قطار للحجيج فقال: (.. لا تُرفع خُفّاً إلّا كُتبت لهم حسنة، ولا تضع خُفاً إلا مُحيت عنهم سيئة، وإذا قضوا مناسكهم قيل لهم بنيتم بناءً فلا تهدموه، وكُفيتم ما مضى فأحسنوا فيما تستقبلون(بحار الأنوار 99/50/47).
ما أروع أن يؤدّي الإنسان تكليفه ويحظى برضا ربّه و ما ألذُّ العناء والسفر إليه ليعود منه وقد جلّلته غمائم رحمته، ويُقال له غُفرت ذنوبك فاستأنف العمل فقد حظيت بعفو الكريم.

نشرت في الولاية العدد 131

مقالات ذات صله