نهج عليّ.. بين الأمة الإسلامية والأمم المتحدة

هاشم الباججي
لقد جسد الإمام علي عليه السلام بنهجه الإنساني الرباني قيم العدالة والمساواة والأمانة وحقوق الإنسان… فهو تعبير عن منهج رسالي – إنساني يمكن أن يكون دواء لكل داء يصيب الأمة، كتلك الأمراض الاجتماعية والسياسية التي أصيبت بها شعوبنا العربية والإسلامية، اليوم على وجه التحديد ، وبهذا النهج الذي وضعه علي عليه السلام تجد معالم الحلول الناجعة للأمراض التي تصيب الأمة في أي وقت من الأوقات.

ففي نهج علي يكمن السلام والتسامح والحوار والاعتراف بالآخر، واحترام الرأي الآخر، واللين والتعامل الايجابي مع المعارضة ما لم ترفع السلاح لتفسد في الأرض ، وبنهجه الرسالي والرباني رسمت معالم الديمقراطية الحقيقة التي تتجلى بأبهى صورها بتنازل صاحب الحق عن حقه الشخصي من أجل الصالح العام، فهو مسالم ما سلمت أمور المسلمين، فلا أهمية لحقه الشخصي قبال وحدة المسلمين وعزتهم وحفظ دين الله.
ولكن ما يؤسف له حقا، هو أن الأمم اكتشفت نهج علي قبلنا، ونحن الأقرب إليه دينا ومذهبا ولغة وتراثا وقيما … وهذا ما جعل أمم العالم مجتمعة في (الأمم المتحدة) في تقريرها السنوي لعام 2002م الصادر عن برنامج الامم المتحدة الإنمائي الخاص بحقوق الإنسان وتحسين البيئة والمعيشة والتعليم والدول الإسلامية والعربية إلى اتخاذ الإمام علي بن أبي طالب مثالا لتشجيع المعرفة وتأسيس الدولة على مبادئ العدالة، وقد احتوى التقرير المذكور الذي اشتمل على أكثر من مائة وستين صفحة على ست نقاط رئيسة أوصى بها الإمام أمير المؤمنين قبل اكثر من ألف عام ، مثلت العدالة والمعرفة وحقوق الإنسان.
واشتملت تلك التعاليم على ضرورة المشورة بين الحاكم والمحكوم ومحاربة الفساد الإداري والمالي والقضايا السيئة الأخرى، وأن تمنح العدالة لجميع الناس، وتحقيق الإصلاحات الداخلية، ومن أجمل ما جاء في التقرير وصايا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الخاصة برئيس الدولة، بقول الإمام : (إنّ من نصب للناس نفسه إماما فليبدا بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأدبيه بسيرته قبل تأدبيه بلسانه، فمعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم)(نهج البلاغة: 4/61).
وفيما يخص الضرائب واستصلاح الأراضي وضرورة التنمية ومحاربة الفقر، نقل تقرير المؤسسة الدولية جانبا من خطب الإمام:
(وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادَ وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ) (نهج البلاغة: 3/79).
وفي مجال التعليم فقد أورد التقرير قول الإمام :
(مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَك) (نهج البلاغة: 3/09).
وبالرغم من أن كثيرا من الأمم اللا دينية التي أقرت هذا التقرير ،إلا أنها تمسكت بضرورة قول الحق وعدم السكوت عن الباطل، من خلال قول الإمام:
(لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ) (نهج البلاغة: 01/91).
أما عن الصالحين وتواضع الحكام والنهي عن الإسراف في صرف الموارد وضرورة تبيان الحقائق للشعب ،فقد ذكر التقرير وصية الإمام التي قال فيها:
(الْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ, مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاقتصاد، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ لاَ يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، وَلاَ يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ) (روضة الواعظين: 4/834).
ومن أهم ما يشغل العالم حكومات وأفراداً هو كيفية تعيين الحكام والمحافظين والمديرين في الدولة، وكيفية أن يكونوا عدولا مع الشعب بل وتحمل المعارضة، وهذا ما أشار له الإمام بإرشاداته ونصائحه لرئيس الدولة لتكون الامة انموذجا في الطريقة المثلى للقيادة، من خلال قوله : (اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاُْمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع، وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقصَاهُ، أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الاُْمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إطْرَاءٌ، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ، أُولئِكَ قَلِيلٌ) (نهج البلاغة: 95/71).
لذا حثت الأمم المتحدة – من خلال برنامجها الإنمائي – دول العالم ولا سيما العربية والإسلامية على الاستفادة من وصايا القائد الإسلامي الإمام علي في إدارة وتطوير دولهم.
لقد اعتمدت الأمم المتحدة في برنامجها الإنمائي الصادر عام 2002م على العهد الذي وجهه الإمام علي عليه السلام إلى واليه على مصر لحكمها وتحقيق العدالة فيها، وقد عدّ هذا العهد من أوائل العهود والرسائل الحقوقية التي تحدد الحقوق الواجبات بين الدولة والشعب، وقد وصل هذا العهد إلى أذن الأمين العام للأُمم المتحدة عبر زوجته السويدية()، وقد قال الأمين العام للأمم المتحدة عن إحدى عبارات العهد حينها ، إنّ هذه العبارة من العهد يجب أن تعلّق على كلّ المؤسسات الحقوقية في العالم، وهي :
(وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق)()، وهذه العبارة جعلت كوفي عنان ينادي بأن تدرس الأجهزة الحقوقية والقانونية عهد الإمام لمالك الأشتر، وترشحه لكي يكون أحد مصادر التشريع للقانون الدولي، وبعد مداولات استمرّت لمدّة سنتين في الأمم المتحدة صوّتت غالبية دول العالم على كون عهد علي بن أبي طالب لمالك الأشتر كأحد مصادر التشريع للقانون الدولي()، وقد تمّ بعد ذلك إضافة فقرات أُخرى من نهج البلاغة كمصادر للقانون الدولي.
لكن.. مع الأسف، لم نكتشف الإمام، وما زال الكثير من المسلمين ممن يدعون أنهم يسيرون على نهج السنة النبوية الشريفة، يتعاملون مع علي من منطلق طائفي بغيض ، وأن أغلب الأمم الإسلامية والعربية تتعامل مع الإمام ونهجه السياسي والاجتماعي وكأنه تراث في الماضي، أو أنه نهج مثالي لا يمكن الاستفادة منه أو تطبيقه في العصر الحاضر.. ولو كان نهج الإمام من الماضي وانقضى ، أو أنه نهج مثالي، لما أوصى تقرير الامم المتحدة المشار إليه، الدول العربية أن تأخذ بهذه الوصايا في برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، لأنها (ما تزال بعيدة عن عالم الديمقراطية، ومنع تمثيل السكان، وعدم مشاركة المرأة في شؤون الحياة، وبعيدة كل البعد عن التطور وأساليب المعرفة) على حد قول التقرير.
ولو تعامل المسلمون بعقول منفتحة مع نهج علي، لما شوهت عصبة من الإرهابيين الذين ورثوا نهج العنف والانحراف والقتل والنزو على السلطة بغير حق عبر التاريخ، صورة الإسلام الناصعة، وقيم السماء النبيلة التي جاء بها ديننا الحنيف ، فلابد من وعي الأمة على نهج علي عليه السلام الرسالي الحضاري، لكي لا تبقى بعيدة عنه، وجاهلة به، الأمر الذي خلق كل هذه الهوة الكبيرة فيما بيننا وبين الامم التي عرفت عليا ولم نعرفه ، والإمام لا يظلمه جهل الناس والامم به، ولكن الأمة ظلمت نفسها اولا، وظلمت قيمنا التي ندعي اننا نؤمن بها ثانيا..

نشرت في الولاية العدد 131

مقالات ذات صله