دعاء الامام الحسين(عليه السلام) يوم العاشر سمو الذات وتجليات الإيمان

د. سوادي فرج مكلف

إنّ المتأمل في سير الأحداث التي وقعت يوم عاشوراء والتي تمخّضت عن مصرع أصحاب الحسين وأهل بيته جميعا، يستطيع أن يكشف أستار المضامين والدلالات التي ينطوي عليها دعاء الإمام الحسين(عليه السلام) حينما وجد نفسه وحيداً لا ناصر له، بعدما قُتل أنصاره وأصبحوا أشلاءً مبعثرة في أرض كربلاء، وقد أعيته الحيلة و أُثخن بالجراح و أيقن أنّه مقتول لا محالة و راحل عمّا قليل عن هذه الدنيا التي طالما وصفها بالمكر والغدر وهو القائل: (إنّ الدنيا دار فناء و زوال متقلبة بأهلها من حالٍ إلى حال فالمغرور من غرّته و الشقي من فتنته)

في هذا الموقف العصيب توجه بكل جوارحه بهذا الدعاء الى الله سبحانه بقوله: (اللهم متعالي المكان عظيم الجبروت شديد المحال غني عن الخلائق عريض الكبرياء قادر على ما تشاء قريب الرحمة صادق الوعد سابغ النعمة حسن البلاء قريب إذا دُعيت محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب اليك قادر على ما أردت مدرك ما طلبت شكور إذا شكرت ذكور إذا ذكرت، أدعوك محتاجا وأرغب إليك فقيراً و أفزع إليك خائفاً وأبكي إليك مكروبا وأستعين بك ضعيفا وأتوكل عليك كافياً، أحكم بيننا وبين قومنا فإنّهم غرّونا وخدعونا وخذلونا وغدروا بنا ونحن عترة نبيك وولد حبيبك محمد بن عبد الله الذي اصطفيته بالرسالة وائتمنته على وحيك، فاجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا برحمتك يا أرحم الراحمين. صبراً على قضائك يا رب لا إله سواك يا غياث المستغيثين ما لي ربٌ سواك ولا معبود غيرك، صبراً على حكمك يا غياث من لا غياث له يا دائماً لا نفاد له يا محيي الموتى يا قائماً على كل نفس بما كسبت، أحكم بيني وبينهم و أنت خير الحاكمين).
إنّ هذا الدعاء يصور لنا المناجاة الخفية التي بثّ فيها الإمام سلام الله عليه شكواه إلى الله الذي يعلم حقيقة ما حلّ به من المصائب والهموم وآلام الجراح … فهو المتفرد بعلوّ المكان وعظمة السلطان وجلالة الشأن ودوام العزّ، وهو الذي يستحقّ أن يُطاع و يُعبد أمّا سلطان الإنسان وجبروته فإنّه حقير لا قيمة له أمام عظمة الخالق وقدرته. ومن هنا فإن الإمام الحسين(عليه السلام) عندما يبذل مهجته وكل ما يملك لدين الله الذي بشر به جده رسول الله (صلى الله عليه واله) فإنّما يؤدّي واجباً مفروضاً عليه بكلّ رضاً وقناعة ويقين صادق بأنّ وعد الله حقّ، و أنّ هذه التضحيات التي قدّمها في هذا اليوم لم تذهب سدى وستكون عاقبتها السعادة الأبدية.
لقد تجسّدت في هذا الدعاء عظمة الروح وقوة اليقين وصدق الإيمان و رجاحة العقل و رباطة الجأش وشجاعة الموقف في وقت عز فيه الناصر، و أقبل فيه الأعداء بكلّ ما لديهم من أنواع السلاح و نوايا الشر، ومهما اشتدّ الهول على الإمام فإنّه لا يبالي؛ لإنّه يعلم أنّ الله معه وسيجمع بينه وبين آبائه و أهل بيته في مستقرّ رحمته عمّا قريب. وعندما يفزع إلى الله ويتقرّب إليه يجد في نفسه الراحة الأبدية و السعادة الحقّة ومن ثم فهو لا يبالي بألم الجراح وفقد الأحبة وعويل النساء و الأطفال، فيتوجّه إلى البارئ عزّ شأنه بكلّ كيانه شاكياً ومناجياً بكلمات تنمُّ عن نفس مطمئنّة و إيمان راسخ بأنّ الله معه في هذه الشدة وهذا ما يهوّن عليه الأهوال، وقد عبّر عن ذلك بقوله في موقف آخر: (لقد هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله). إنّ التسليم المطلق لأمر الله والقبول التام بقضائه من بواعث اطمئنان النفس والبعد عن الخوف والقلق، ثم يلجأ الإمام بعد ذلك إلى الركون للصبر على الشدائد ما دام المعبود حاضراً لديه يسمع كلامه ويرى حاله ويقضي بالحق بينه وبين أعدائه.
يقول الكاتب المصري عباس محمود العقاد في كتابه: (أبو الشهداء الحسين ابن علي): «إننا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمى و ألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء بعد مصرع الحسين فيها فكل صفة من تلك الصفات العلوية التي بها الإنسان إنسان وبغيرها لا يحسب غير ضرب من الحيوان السائم فهي مقرونة في الذاكرة بأيام الحسين عليه السلام في تلك البقعة الجرداء. وليس في نوع الإنسان صفات علويات أنبل ولا ألزم له من الإيمان و الفداء و الإيثار ويقظة الضمير وتعظيم الحق ورعاية الواجب والجلد في المحنة والأنفة من الضيم والشجاعة في وجه الموت المحتوم» ويقول أيضا: «وقد تناهت هذه المناقب إلى مداها الأعلى في نفس قائدهم الكريم .. يخيل إلى الناظر في أعماله بكربلاء إنّ خلائقه الشريفة كانت في سباق فيما بينها أيّها يظفر بفخار اليوم فلا يدرى أكان في شجاعته أشجع أو في صبره أصبر أو في كرمه أكرم أو في إيمانه وأنفته وغيرته على الحق بالغا من تلك المناقب المثلى اقصى مداه» ص130 – 134.
ما أشبه دعاء الحسين هذا بدعاء جدّه المصطفى (صلى الله عليه واله) حينما ذهب إلى الطائف تجنّباً لبطش المشركين في مكّة فاستقبله أهلها بجهلهم وعنادهم وأخذوا يرمونه بالحجارة حيثما سار فأخذت الدماء تسيل من قدميه فالتجأ إلى بستان هناك وتوجه إلى ربّه بهذه المناجاة: (اللهم إليك أشكو ضعف قوّتي وقلّة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين وأنت ربّي إلى من تكلني أإلى بعيد يتجهمني أم إلى عدوّ ملّكته أمري، إنْ لم تكن غضبان علي فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة الا بك). إنّ رسول الله (صلى الله عليه واله) يشكو إلى ربّه ما صنع به الجاهلون من قومه والإمام الحسين يشكو إلى ربّه ما صنع به جيش الأعداء من أتباع الحاكم الجائر المتسلط على رقاب المسلمين بقوّة السلاح، فالموقفان متشابهان والتضرّع إلى الله لا يختلف في كلتا الحالتين وليس ذلك بغريب فقد قال رسول الله (صلى الله عليه واله) (حسين مني وأنا من حسين) فكلا الدعاءين يصدران من مشكاة واحدة ويكون الدافع إليهما قوّة الإيمان و صلابة الموقف و الركون إلى عظمة الخالق الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
إنّ هذا الدعاء يعرب عمّا يمتلئ به كيان الإمام عليه السلام من الركون إلى الجهاد الحق الخالي من رجاء الغنيمة وإلى تحبيب الموت وتهوين أمر الدنيا والشعور بالغربة والاستيحاش و الصبر على المكاره و احتساب الأجر عند الله ساعة الوفود عليه والوقوف بين يديه والتسليم لأمر الله وقضائه بنفس راضية مطمئنة لا يعتريها الوهن ولا يخامرها الشك فيما وعد الله عباده الصالحين من العطاء الدائم والخلود في جنات النعيم.
لقد وعى الإمام الحسين عليه السلام كلام أبيه أمير المؤمنين عليه السلام واتخذه منهجا له يسير على هديه ولا يحيد عمّا كان يقرع سمعه من مثله قوله في ذم الدنيا: (كم من واثق بها فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته، وذي أبهة قد جعلته حقيراً … سلطانها دول وعيشها رنق وعذبها أجاج، وحلوها صَبِرٌ وأسبابها رمام … ملكها مسلوب وعزيزها مغلوب وموفورها منكوب وجارها محروب) نهج البلاغة خطبة (111).
وفي ظل هذه المواعظ الباهرة والمعاني السامية أصبح الإمام الحسين عليه السلام النموذج الأمثل لجميع السجايا المحمودة في نوع الإنسان دون منازع. وإنّ ذكراه الخالدة تنتصب شامخة أمامنا بكلّ حرارة وعنفوان فهو القدوة التي تجتذبنا بما تحمله من روعة وجلال وهو الدرس الذي خطّه على جبين الزمن و الرمز العظيم الذي حفر في قلوب الأحرار في العالم معالم الطريق نحو الحرية والانعتاق من أسار الظلم والاستبداد. وكان عليه السلام في أحلك المواقف رابط الجأش نافذ العزيمة كأنّه جبل أشم وقد تزول الجبال ولا يزول عاش حراً ومات حراً وترك للأجيال تأريخاً هو ملء الدنيا نوراً وملؤها عطراً وشرفاً وعزّاً.
فسلام عليك أبا الأحرار وعلى أولادك وأهل بيتك وعلى أصحابك المستشهدين بين يديك وجعلنا الله من التابعين لكم والسائرين على دربكم وحشرنا معكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

نشرت في الولاية العدد 132

مقالات ذات صله