الإمامة المعصومة في المنظار السياسي


د. محمد علي محمد رضا الحكيم

قالت الشيعة بضرورة النص في تعيين الإمام. ولكن لماذا النص؟ لضرورة أن يكون الإمام معصوما، ولما كانت العصمة خافية علينا ولا يعلمها إلا الله؛ لذا ثبت ضرورة التعيين بالنص.
ولماذا يجب أن يكون الإمام معصوما؟ لأن المقتضى من وجوب نصب الإمام هو جواز الخطأ على الرعية، فلو كان الخطأ جائزا في حقه، بطل الغرض من تنصبيه، فوجب أن يكون الإمام معصوما. ذلك ملخص لنظرية الامامة المعصومة.

ولو تحدثنا بلغة السياسة نجد أن المجتمع الذي تشكل في البداية جراء المطالب والحاجات الغريزية بوصفها ضرورات ألزمت الإنسان بالانضمام إلى الآخرين والتعاون معهم، ما لبث وتحت حكم الحاجة أيضا للحفاظ على هذا الوضع والتحول نحو العمل على إبراز شكل من أشكال الانتظام، يحكم حركة المجتمع. وتأتي السلطة بمثابة الراعي لعملية التنظيم الاجتماعي، فهي قوة مهمتها تأمين النظام من أجل ديمومة الجماعة.
غير أن السلطة لا تبرر وحدها نفوذ وقدرة الحكام، فالقدرة على الإكراه لا تكفي الحكام للحفاظ على سلطتهم، ومن أجل ضمان استمرارية السلطة، يجب أن تحظى هذه الأخيرة بقبول المحكومين. وفي هذا الصدد يرى مارسيل بريلو، بأن السلطة لا تنحصر فقط في القوة المادية البحتة حتى في المجتمعات البدائية، لأنه إذا كانت السلطة السياسية مؤسسة على القوة لزم أن يكون هناك شرطي وراء كل مواطن، بل شرطي وراء كل شرطي أيضا؛ ولذا يجب أن يحل محل السلطة القائمة على القهر سلطة قائمة على كل من القهر والاقتناع، وقد برهنت على ذلك الأحداث التاريخية؛ فانهيار الإمبراطوريات التي قامت على الغزو، دليل على رفض الخضوع لسلطة القهر، كما أن هاجس الحكام، بضرورة إقناع الشعب بصحة السياسة التي يتبعونها وعدالتها، هو دليل آخر على حاجة الحكام إلى قبول المواطنين بسلطتهم.
هنا يبرز مفهوم الشرعية كنتاج للمحاولات المبذولة من أجل تحديد طبيعة المواقف المتخذة من قبل الناس تجاه السلطة، وهو يعني شرعية السلطة القائمة من حيث صلاحيتها كسلطة للأمر، الذي يستوجب التكليف والطاعة. ويقع هذا المفهوم ضمن مجال الفلسفة السياسية التي تتبناها الدولة، أو ما يعرف بالأيديولوجية. وانبثق عن هذا المبدأ مفهوم آخر لدى فقهاء القانون عرف ب(المشروعية)، ويراد منه معيار التزام السلطة بقواعد القانون من جهة، والأهداف والقيم العليا للمجتمع من جهة أخرى. وكلاهما يفترض أن يكون متضمنا في تلك الفلسفة أو الأيديولوجيا التي تتبناها الدولة.
على ضوء ما تقدم، ونحن إزاء فكر ديني ومجتمع إسلامي، يعتقد بأن الشرعية تستند إلى الإرادة الإلهية؛ إذ لها وحدها حق التصرف في الخلق، ولا شرعية إلا أن تكون مستمدة من هذه الإرادة وتنتهي إليها. قال تعالى: (إن الحكم إلا لله) (يوسف:40)؛ وعلى ذلك تكون فكرة الجعل الإلهي نتيجتها المنطقية التي لا تقبل الاعتراض، كون الإرادة الإلهية هي الأحق بعملية التشخيص والأقدر على اصطفاء الأئمة من بين الخلائق. ويمثل التنصيص الإلهي على شخص الإمام تعبيرا واضحا لذلك الحق من جهة، وتجسيدا حقيقيا لأعلى درجات (الشرعية) من جهة أخرى، من حيث إن التصريح -بهوية الإمام- يمثل أصدق طريق للتعبير عن الإرادة الإلهية، ومنبع الشرعية الوحيد في الفلسفة الإسلامية.
علاوة على أن نظرية العصمة التي تفترض أن قول المعصوم وفعله وتقريره -حسب اصطلاح الأصوليين- مطابقا للشريعة الإسلامية، ومن ثم يتمتع بأعلى درجة من درجات (المشروعية)، من حيث إنها معيار للنظر في مدى مطابقة ما يقوم به الإمام مع دستور الإسلام من جهة، وتنسجم مع الأهداف والقيم العليا للمجتمع الإسلامي من جهة ثانية، لأن الإمام المعصوم هو أول من يقوم على تحقيق تلك القيم، من حيث أنه أكثر إحاطة بها والأقدر على تحقيقها، كونه مختارا من قبل الله تعالى لهذه المهمة.
وقد اعترف الكاتب المصري المعاصر الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه (نظرية الإمامة)، بقوة نظرية الإمامة المعصومة نظريا وتماسكها منطقيا، إلا أنه أخذ عليها أنها تحلق بعيدا في أجواء المثالية، وأنها حين ترتطم بالواقع الملموس تبدو عليها نواحي التهافت، إذ أنها تصورات عقلية للتمني، ولكنها لا تغني عن الواقع شيئا.
وإزاء ذلك يتوجب علينا النظر في النظرية المقابلة لنظرية الشيعة، علها تعطينا حلا إسلاميا لمشكلة نظام الحكم في الفلسفة الإسلامية، يتسم بالترابط المنطقي وفي الوقت نفسه يكون أكثر انسجاما مع معطيات واقع المجتمع الإسلامي.
في معرض حديث الشهرستاني – في كتابه نهاية الاقدام في علم الكلام- عن وجهات نظر علماء الإسلام في موضوع خلافة الرسول أو الإمامة، قال: تعيين الإمام هل هو ثابت بالنص أو بالإجماع؟.. فالقائلون بالإجماع اختلفوا في أن إجماع الأمة عن بكرة أبيها شرط في ثبوت الإمامة، أم يكتفى بجماعة أهل الحل والعقد؟
انطلق من ذلك بعض الكتاب المعاصرين -كالدكتور محمد ضياء الدين الريس في كتابه (النظريات السياسية الإسلامية) والدكتور السنهوري الذي نقل رأيه في هذا الكتاب أيضا – إلى التصور بأن اختيار الإمام على هذا النحو ثم البيعة له من قبل الأمة، يكون بمثابة (العقد السياسي) الذي يستوفي شروطه القانونية. وقارب بينها وبين نظرية العقد الاجتماعي التي طرحها روسو، فوجد أن العقد الذي تكلم عنه روسو كان مجرد افتراض، حيث لم يتوفر عليه برهان تاريخي، بينما تحظى نظرية العقد الإسلامية بماض تاريخي ثابت، هو تجربة الأمة في خلال العصر الذهبي للإسلام المتمثل بعصر (الخلافة الراشدة).
غير أن هذا التصور المتقدم لنظرية العقد الإسلامي يصطدم بعقبات جمة؛ لأن ما جرى في عملية اختيار الخلافة الراشدة، وهو الأساس الذي استمد منه علماء أهل السنة نظريتهم في الحكم، لم يكن على قاعدة مشتركة أو نظام موحد؛ ومن ثم فإن جماعة أهل السنة لم يكن لديها مبدأ في الخلافة مجمع على قبوله.
فهذا شيخ أهل السنة في زمانه يصرح باستحالة إجماع أهل الحل والعقد فضلا عن إجماع الأمة كلها، بل نقل إجماع العلماء على استحالته، قال الباقلاني في كتابه (التمهيد): أجمع أهل الاختيار على بطلان ذلك. حيث أن إجماع سائر أهل الحل والعقد في سائر أمصار المسلمين بصقع واحد؛ وإطباقهم على البيعة لرجل واحد متعذر ممتنع.
وحين عرض الماوردي لآراء العلماء في عدد أهل الحل والعقد في كتابه (الاحكام السلطانية والولايات الدينية)، نجد تباينا واضحا في الآراء، حتى أننا لم نعد نلمس في بعضها جوهر الفكرة الأساس التي بنيت عليها نظريتهم في الخلافة. فكتب: فقالت طائفة: لا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد من كل بلد، ليكون الرضا به عاما والتسليم لإمامته إجماعا. وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد به خمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة. وقال آخرون من علماء أهل الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين، ليكونوا حاكما وشاهدين، كما صح عقد النكاح. وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد؛ لأن العباس قال لعلي (رض) أمدد يدك أبايعك
وبهذه التفسيرات اختل المبدأ الذي قامت عليه نظريتهم في الخلافة ولم نعد نلتمس ذلك الاتفاق، الذي يلقى نوعا من المقبولية كسيرة عقلائية في عملية اختيار الإمام، بعد أن أصبحت الإمامة تنعقد بثلاثة؛ وهم بمثابة الحاكم والشاهدين، أو تنعقد بواحد.
وهل بعد ذلك يمكن أن نتصور (عقدا اجتماعيا) أو (اتفاقا سياسيا) على أهم منصب في الدولة؟ وأين هذا من فكرة العقد الاجتماعي التي قال بها روسو وزملاؤه في العصر الحديث؟ ثم إن هؤلاء القائلين بالعقد الاجتماعي إنما أرادوا من ورائه أن تستمد السلطة شرعيتها من قبول المحكومين، ومشروعيتها من مدى قيامها على مصالح الناس وخيرهم. أما شرعية الإمام في الفلسفة السياسية الإسلامية فتستمد من الإرادة الإلهية، وهي التي ذمت الأكثرية في أكثر من موقف، كقوله تعالى: (لقد جئناك بالحق ولكن أكثرهم للحق كارهون) (الزخرف:78). أما مشروعية عمل الإمام فتقاس برضا الرب، وإن كان ذلك يتضمن بالتأكيد مصالح الناس وخيرهم، إلا أن ذلك ليس بصورته المطلقة كما ذهب الغربيون في العصر الحديث، وإنما بشرط موافقتها لقانون الإسلام، فكيف نحرز هذه الموافقة مع فرض أنه غير معصوم؟ وبالتالي يصح منه الخطأ على سبيل القصد والسهو والنسيان.

مقالات ذات صله