النبات في القرآن الكريم المَثَل والعبرة

الباحث / جواد ابو غنيم

من أكثر من زاوية يتعامل القرآن الكريم مع عالم النبات ذي الخلق المعجز، والمعاني المتدفقة، والقيم التي لا تكف عن التمخض والعطاء. يحدثنا حيناً ومن خلال هذا العالم عن الموت والحياة… وينقلنا حيناً آخر إلى ملامح الاعجاز والابداع فيه… تفجير الحياة من قلب التربة الميتة… وتنويع العطاء الذي يسقى بماء واحد… وحيناً ثالثاً يحكي لنا عن منافع هذا العالم وتغطيته للضرورات دون أن ينسى الجانب الآخر: الجمال والتناغم والألفة الميتافيزيقية بين خلائق اللَّه… وينتقل في مجموعات أخرى من الآيات البينات لكي يضرب به الأمثال…

دراما الحياة والموت..‏
إن أبرز ما يجابه الإنسان وهو يقلب ناظريه في حدائق اللَّه المخضرة في العالم، هو تقلبها السريع بين الحياة والموت، انبثاقها من قلب التربة خفيفة، رشيقة ثم اخضرارها وإزهارها، ثم تيبسها وذبولها.
ليس ثمة رحلة بين الانبعاث والفناء أسرع من هذه. صحيح أن النباتات تؤدي مهمتها المرسومة في العالم منفعة وجمالاً ولكنها تظل تحمل ما هو أكبر من المنفعة والجمال، إنها (العبرة) التي تنطق بها هذه الرحلة ذات التحول الدرامي السريع بين الحياة والموت. والحياة البشرية في النهاية عبارة عن ما يحصل في دنيا النبات. بمعنى آخر الإنسان يخرج من رحم أمه، لكن ما يلبث بعد رحلة تطول أو تقصر، أن يذبل ويتيبس ويغيب كما النبات في قلب التراب.
هذه الذكرى الضرورية تحمي الإنسان من ورم الغرور والاستعلاء اللذين يقودان إلى الكفر والفسوق والطغيان.
يقول تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وازينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها، أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغنَ بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون)(يونس: 24). وفي آية أخرى: (ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه، ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً، إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب)(الزمر: 21). وأيضاً: (والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى) (الأعلى: 5،4).
وفي هذه الآية الأخيرة تُختزل المسافة اختزالاً فلا يتبقى بين الانبعاث والتحطم أيما فاصل. وتلك طريقة القرآن الكريم المؤثرة في تصوير القيم والمعاني إزاء حقيقة الفناء والتحطم التي تلف الحياة والخلائق، وتصغر المسافة المنظورة بين الوجود والمصير إلى حد أن ترى منظراً واحداً، ألا وهو الفناء الذي يكتسح الحياة.

معجزة الخلق والانبعاث‏..
إذا كانت دراما الفناء الخاطف السريع تعلمنا كثيراً وتبصرنا بمواقع خطواتنا في الأرض فإن معجزة الخلق المفاجئ تعلمنا كثيراً هي الأخرى وفي قوله تعالى في القرآن الكريم:
(إن اللَّه فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي) (الأنعام: 95).«وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج» (الحج: 95).
«وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون. ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون» (ياسين: 35 33). «اعلموا أن اللَّه يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون» (الحديد: 17).
ما يلفت أنظارنا إلى أشد الحقائق ثقلاً وتواجداً في قلب العالم، بعث الحياة من أعماق التربة الميتة والتجدد الدائم والانبعاث المستمر المتواصل الذي منحه اللَّه سبحانه للخلائق كلها بقدرتها على التجدد والاستمرار وهذه ضرورة لصيرورة الحياة والابداع. وكذلك بالنسبة للكائن البشري الذي تنز ل به المحن والضربات من اللَّه تعالى ولكن تبقى وراء هذا كله قدرة الافراد على الاستمرار، وذلك بقدرة اللَّه سبحانه.
المنفعة والجمال‏..
ويوقفنا القرآن الكريم عند نماذج أخرى ليحدثنا عن جانب آخر من عالم النبات في المنفعة والجمال، فإن عالم النبات يغطي بعطائه الزاخر حاجات بني آدم المادية ومطامحهم الروحية على السواء. والقرآن الكريم يشير في أكثر من موضع لأهمية النبات القصوى كمادة للحياة البشرية: من طعام وتدفئة ولبس ويدعو بني آدم إلى الافادة من هذه المنحة الإلهية لاشباع ضروراتهم. «وظللنا عليكم الغمام، وأنزلنا عليكم المن والسلوى. كلوا من طيبات ما رزقناكم» (البقرة: 57).
ولكن لا يقف عند ذلك بل يتحدث عن الوجه الجمالي لعالم النبات. سبحانه جل جلاله، إنها إرادته وحده ويد اللَّه المبدعة التي زينت هذا الوجود بأحسن خلقه لتكون هذه الطبيعة عبرة للبشر. وهذا أحد الملامح الأساسية التي تميز بني آدم عمن دونهم من الخلائق: الاحساس بالجمال والإدراك لهذا الابداع الباهر. «وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجره» (النمل: 60).
«فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان» (الرحمن: 12 10).
لمحات من الحضور الإلهي الدائم‏..
«والأرض مددناها وألقينا فيها رواسيَ وأنبتنا فيها من كل شي‏ء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين. وإن من شي‏ء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم» (الحجر: 20 19).
«ما يفتح اللَّه للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحليم، يا أيها الناس اذكروا نعمة اللَّه عليكم هل من خالق غير اللَّه يرزقكم من السماء والأرض» (فاطر: 3 2).
«وما تخرج من ثمرات من أكمامها، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه» (فصلت: 47).
وفي تلك الآيات الحكيمة ينقل لنا الحضور الإلهي الدائم في مدى الكون وارجاء العالم، ونرى يد اللَّه الخلاقة القديرة في كل شي‏ء وكذلك الحضور المبدع والخلاق في دنيا النبات.
فلا يخفى عنه شي‏ء، ما من ثمرة تنشق عنها الأكمام، ما من ورقة تسقط، ما من رطب ولا يابس، ما من حبة تتكون وتختبئ تحت صخرة في ظلمات الأرض، إلا … في حضور اللَّه ويد اللَّه متواجدة يرزق مخلوقاته بالنعم والرحمة عليهم في بقاع الأرض.
وفي قوله سبحانه وتعالى: «يا بُنيَّ إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها اللَّه» (لقمان: 16).
إن اللَّه جلّ وعلا هو خالق هذه الدنيا، وباعث نباتها من قلب التربة الصماء هو الذي مكّن غصون الأشجار من تقديم الطعام، وجذوعها من اشعال النار. هو الذي يمنح النبتة حيويتها المخضوضرة، أو يسلبها إياها فتتيبس وتصفر وتغدو حطاماً إن اللَّه سبحانه هو المنشئ والزارع وهو المقدّر والموزّع.
ونختم أخيراً بالآية الكريمة: «هذا خلق اللَّه!! فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟!» (لقمان: 11).

نشرت في الولاية العدد 132

مقالات ذات صله