أ.د. خليل خلف بشير / جامعة البصرة
كان أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى جانب إيمانه وحكمته وبلاغته في القمة من الناحية الخُلقية فقد كان صورة حية للمروءة، والصدق، والوفاء، وكرم النفس، والصراحة، والشجاعة، والعطف، والنبل، والصبر، ونكران الذات، وتلك من أسباب تميّزه عن مناوئيه على مرّ التاريخ.
وعلى العكس كان مناوؤوه نموذجاً للأثرة، والأنانية، والملق، والدجل، والمكر، والإنحدار في الأخلاق.
بالرغم من أنّ العصر الذي عاش فيه أمير المؤمنين(عليه السلام) كان عصر حب الدنيا، الذهب والفضة، والمؤامرة، والزيف، والحيف فإن الإمام رفض أن ينتصر على حساب أخلاقه، وكان يقول لمن كان يوصّيه بخلاف ذلك: (( أتأمروني أن أطلب النصر بالجور، والله لا أطور به ما سمر سمير وما أمّ نجم في السماء نجماً)) فهو لا يرضى الدنية في دينه أو دنياه، يعرف طريق الغدر ولا يسلكه، والخدعة عنده لا تجوز إلا في الحرب ولا يمارسها، أما في زمن السلم فهي عنده لون من ألوان الخيانة والكذب، يعرف ما يرضي الناس ولكنه لا يأتيه؛ لأنّه يرى فيه ظلماً للآخرين، وإغضاباً لله.
ولما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) رجلَ دولةٍ بصيراً بسياسة أمور الرعية فقد أقام سياسته على دعائم مكارم الأخلاق، ولا يضيره ما عاناه، وهو يشقُّ الطريق الوعر إلى الحقيقة ليقيم العدل، ويحقق المساواة، ويدفع الظلم فهو يرى أنّ صلاح الغاية لا يتمّ إلا بصلاح الوسيلة، وغايته مصلحة الأمة وصلاحها، ولأن يخسر أمنه وراحته خيرٌ من أن يهدرَ قيمه، ولأن يهدي الله به رجلاً واحداً خيرٌ له ممّا طلعت عليه الشمس فقد استقى من منبع النبوة، وتربّى بخُلق الرسالة فكان ربّاني هذه الأمة، وهو القائل: (( لو كنّا نرجو جنة، ولا نخشى ناراً ولا ثواباً ولا عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق فإنّها ممّا تدلّ على سبيل النجاح )(ميزان الحكمة: 1/803) وقصته مع عمرو بن العاص معروفة حينما أوشك أن يقتله أبرز عمرو عورته للإمام فصرف الإمام وجهه عنه، وتركه يسرع هارباً، وكان (عليه السلام) يعفو ويصفح عن عدوّه، ويعرف سلفاً أنه لو كان هو المنتصر لم يكن ليصفح أو يعفو أو يرحم، كما في قصته مع بُسر بن أرطأة الذي قلّد عَمْر بنَ العاص في كشف عورته عندما أحسّ بثقل الضربة أنها ضربة علي؛ لأنّ الإمام كان متنكراً فعفا عنه الإمام بصرف وجهه عنه ليتركه يفلت هارباً، وكذا في قصته مع عمرو بن ود العامري في معركة الخندق، وعدم سلبه لدرع عمرو إنما يدلّ على كرم نفسه ويروى أنّ أخت عمرو بن ود لما رأت أخاها غير مسلوب قالت: ((إنما قتله كريم))، ويُنسب إليه قوله (عليه السلام) في هذا الصدد:
وعفَفْتُ عن أثوابه ولو أنني كنتُ المقطّر بزّني أثوابي
وكان (عليه السلام) يوصي قنبراً بقوله: ((يا قنبر لا تعرِّ فرائسي)(البحار 41/73) أي لا تسلب قتلاي.
كان (عليه السلام) عظيماً في شخصيته، ولم يكن يستمدّ شخصيته من مظاهر القوة الفارغة من البطش والتنكيل، ولم يكن ممن يغريه سلطانه وقوته الجسدية أن يأخذ أحداً بأكثر ممّا يستحق أو أن تسمح له سلطاته الواسعة بتجاوز مفردة من مفردات الأخلاق الرفيعة بل كان يردّ البذاءة الشخصية بالعفو والصفح والرد الجميل فكرم نفسه والتزامه بالأخلاق الحسنة كانت تدعوه إلى الصفح والعفو حتى على ألد أعدائه، والحرب لا تزال قائمة، من ذلك ما رُوي عن إطلاقه سراح أسرى جيوش الشام من غير فدية أو عقاب بالرغم من أنّ خصمه معاوية أوشك أن يقتل أسرى جيش الإمام.
ومن أخلاقه أنه لم يسمح لأصحابه أن يشتموا عدوهم أو يلعنوهم فللعدو احترامه بالرغم من أنه يجوز قتله فقد روي أنّه خرج إلى الناس فوجدهم يشتمون ويلعنون معاوية وأتباعه فزجرهم فقال مالك الأشتر: ألسنا محقين؟ قال الإمام: بلى. قال حجر بن عدي: أليسوا مبطلين؟ قال الإمام: بلى فقال الناس: لِمَ تمنعنا عن شتمهم؟ قال الإمام: (( إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر فإن قلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق منهم من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به كان هذا أحبَّ إلي، وخيراً لكم)) فقال الأشتر وحجر بن عدي: ((يا أمير المؤمنين نقبل عظتك، ونتأدب بأدبك)).
ثمّ إنّ للقتال عنده أصوله فكان لا يتبع منهزماً، ولم يجهز على جريح، وكان يوصي أصحابه ويلزمهم بذلك وينهاهم عن كشف العورة، والمثلة بالقتلى، ودخول دار العدو إلا بإذن، وسرقة المال إلا ما وجدوه في العسكر من عدة السلاح وأدواتها كما في قوله: ((… ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً إلا بإذن، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم من عدة الحرب وأدواتها)).
ليس الغدر شيمته، ولا المباغتة دون الإعذار جائزاً عنده فقد نهى أصحابه أن يبدأوا عدّوهم بقتال إلا أن يبدأ هو به، من ذلك قوله للأشتر: (( إياك أن تبدأ بقتال حتى يبدأوك حتى تلقاهم وتسمع منهم، ولا يحملك بغضهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة… ولا تدنُ منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب، ولا تتباعد عنهم تباعد من يهاب المسير حتى أقدم إليك حثيث المسير في إثرك إن شاء الله تعالى )).
من أخلاقه أيضاً أنه لاحت له فرصة أن يمنع أعداءه من الماء فأبى أن ينتهزها كما فعل ذلك فيما بعد معه أصحاب معاوية، وبعد المعركة منع الإمام أصحابه أن يستبيحوا السبي، ويأخذوا غنائم منهم فغضب بعض أصحابه من ذلك فقالوا: (( يا أمير المؤمنين … أتراك تحلّ لنا دماءهم، وتحرّم علينا أموالهم؟ فقال (عليه السلام): إنما القوم أمثالكم … من صفح عنّا فهو منّا، ومن لجّ فقتاله مني حتى يصاب على الصدر والنحر)).
كانت للرحم عنده حرمة خاصة يأمر باحترامها، ويعدّها مهمة إلى جانب الإيمان، والجهاد، والإخلاص، والصلاة، والصوم فصلة الرحم عنده مثراة في المال ومنسأة في الأجل، وحتى في الحرب كان يأمر أن يحترم الرحم ففي معركة صفّين تبارز أخوان متنكران فصرع أحدهما الآخر فسقطت خوذة المغلوب فإذا هو شقيق الغالب فتوقف حتى استأذن الإمام في أمرِه فأمرَهُ الإمام أن يدعَ أخاه، ويعفو عنه.
وفي حالات السلم كان (عليه السلام) للناس أباً رحيماً فقد ظهرت أخلاقه الكريمة والتزامه بالأصول الإنسانية في كثير من المواقف والأعمال.
نشرت في الولاية العدد 134