عليٌ(عليه السلام) وليـــدُ البَيْــتِ المُبَــــارَك

الشيخ: بدري البدري

يتبادر إلى الذهن حين تُذكرُ الكعبةُ الشريفةُ أو مكةُ المكرمةُ إلى حادثةِ الولادة المُطهرة التي صارت ملازمة لذكر اسم البيت، فمتى ذُكر وتصورناه حضر في مخيلتنا وقوف السيدة الجليلة فاطمة بنت أسد قِبال البيت مناجية بارئها، مقرة بالعبودية له، مستشفعة
لديه بإيمانها به، وبأنبيائه وكتبهم أن يقضي حاجتها، وما أكرمها من حاجة وأنْدَرَها من طلبة وأعظمها من إجابة.
رفعت يديها إلى ربها فأكرمها بجوابه، فكانت الكرامة لها ولوليدها معاً، والمنقبة المختصة والمنحة الفريدة للوليد المقدس في البيت المطهر، ليدخل علي (عليه السلام) في حياة ملؤها مناقب، عزَّ وجودها وندَرَ نظيرها في سواه، وكأنه مصنوع لها و هي مفطورة عليه.
نعم إنه عالمُ عليٍ (عليه السلام) الذي كان كله لله، فسدده وأيّده ونصره في كل مواقفه، ووهب له من المناقب ما تعجز الأقلام عن حصرها والعقول عن الإحاطة بها والأفهام عن إدراكها، عالم ملؤه الطاعة والعبودية وتحيط به الكرامات من كل جوانبه.
كيف لا يكون عليٌ كذلك وهو الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن الله جعل لأخي علي فضائل لا تحصى، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقراً بها غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن كتب فضيلة من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم، ومن استمع إلى فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع ، ومن نظر إلى كتاب من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر) (دلائل الصدق ص 320).

حديث الولادة
أحسّت السيدة فاطمة بنت أسد رضوان الله تعالى عليها بوجع الولادة وهي في الشهر التاسع من الحمل، فأقبلت إلى المسجد الحرام وطافت حول الكعبة، ثم وقفت داعية متضرعة إلى الله تعالى ليسهّل عليها ولادتها، قائلة: يا رب إني مؤمنة بك وبكل كتاب أنزلته، وبكل رسول أرسلته، ومصدقة بكلامك وكلام جدي إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وقد بنى بيتك العتيق، وأسألك بحق أنبيائك المرسلين، وملائكتك المقربين وبحق هذا الجنين الذي في أحشائي إلا يسرت عليّ ولادتي.
ما أكرم السيدة فاطمة بنت أسد رضوان الله تعالى عليها وأكرم وليدها عند الله، ما انتهت من مناجاة ربها حتى جاءها الجواب سريعا، وانشق جدار الكعبة المسمى (بالمستجار) ودخلت السيدة المباركة إلى جوف الكعبة، وارتأب الصدع، وعادت الفتحة والتزقت، وولدت ابنها المطهّر علياً (عليه السلام).
ومن عجيب الأمر أن للكعبة باباً للدخول فيها والخروج منها، فلِمَ وقفت السيدة المباركة أمام جدار الكعبة ؟ أليس من الطبيعي إن كانت قاصدة الدخول في جوفها أن تقف على بابها وتطلب ولوجها إن كان يصح لمثلها الولوج حيث أنها تريد الولادة فيه والبيت محل عبادة لا مكان ولادة!، إنها تريد تيسير أمرها كأيّة امرأة تمر بحالة المخاض وآلامه، وهل يحق أو يصح لها أن تطلب أمراً نادر الوجود وغير معتاد.
وقد مرّت بحالات حملٍ وأنجبت أكثر من وليد قبل عليٍ (عليه السلام)، ولم يحدث أنها قصدت البيت في ولاداتها السابقة لتدعو حذاء البيت وتسأل باريها كما صنعت مع حملها المُطهر (عليه السلام).
من الواضح أن أمراً غيبياً يقف وراء اتخاذ السيدة الكريمة فاطمة بنت أسد (عليها السلام) قرارها في التوجه إلى البيت الحرام، والتضرع والتوسل والطلب من ربها الذي آمنت به أن يسهّل أمرها؛ لتضع وليدها الذي تنتظره، ليكون له شأن عظيم، ومكانة في عالم الإنسانية والإسلام معاً.
وكأنها مأمورة في رواحها ووقوفها أمام الجدار؛ لينشق خاضعاً لأمر الله مرحباً بالأم وما تحمل لتدخل البيت آمنة مطمئنة، ويعود ينغلق عليهما وكأنهما درتان نقيتان مكنونتان في صدفة مصونة طيبة طاهرة، تضع الوالدة الموحدة ولدها الذي سيكون إماماً للموحدين، وتستبشر به ويبقيان في البيت مُكرمين في ضيافة ربهما ثلاثة أيام، فيطغى نور الوليد وسط الصدفة التي يستقبلها المسلمون في صلاتهم فتشق جدارها من جديد مُقدمة للعالمِ أجلَّ هديةٍ وأكبر هبةٍ ربانية بعد التحفة النورانية المحمدية.
انشق جدار الكعبة المشرفة في حادثة فريدة ما تكررت في أمر رباني مقدر محسوب لامجال لضرب من الخيال فيه أو وصفه بالصدفة.
مرتان شُقَ الجدارُ الذي استجارت به أم الوصي (عليهما السلام) قبل تضرعها والولادة، وبعد دخولها وميلاده، لتكون الحادثةُ واقعةً بليغة المعاني واضحة الدلالات لكرامة المولود المبارك عند ربه ولتبيين أول منقبة له في أول أيامه، منقبة سجلتها حوادث الأيام لامجال لإنكارها وإن كانت خرقاً للعادة.
شاهدها أثر الجدار ورسمه الذي لايزال واضحاً عليه شق اخترق الزمان، ولم تمحه حوادث أيامه وحكامه، وهو دليل ثان أنه أمرٌ محسوب ومقدر، فهو أمرُ الباري(عزّ وجلّ) وإكرامه.
خرجت أم عليٍ (عليهما السلام) تحمله فأخذ أبو طالب وليده فضمه إلى صدره ورده إلى أمه، وأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله)- والحادثة قبل البعثة – فرأى علياً يهش ويضحك كأنه ابن سنة، فقبله وحمد الله على ولادته، وهو يعلم أنه سيكون له أحسن وزير، وخير أخ، وهو أول مؤمن به.
فيا أمير المؤمنين عليك منا تحية وسلام ما أشرقت شمس وطلع البدر، ولا حرمنا الله فضل طاعتك وقربك وشفاعتك.

نشرت في الولاية العدد 126

مقالات ذات صله