تأملات في مختارات من نهج البلاغة

254789_9

عبد الرحمن الشريفي

نتطلع الى اليوم الذي تتخذ فيه الإنسانية من نهج البلاغة دروسا لمجالات الحياة كافة، فتنهل من معينه الصافي خير الحياة وسعادتها وبذلك تبني اجيالا بالكلمة الطيبة، تحيا نقية بفطرتها وتتسامى علوا بإيمانها.
وفي هذا المقال نقدم أنموذجين مختارين من نهج البلاغة، نتأمل فيهما، ونسبر غورهما، علّنا نوفق بالمسير على نهجه(عليه السلام)، الذي يوصلنا حتما إلى الغاية التي نتمناها.

 

الانموذج الاول:
كان الإمام علي(عليه السلام) حريصاً على متابعة الولاة الذين يستخلفهم في الأمصار المنضمة والمناصرة لدولة الإسلام، فيؤكد على أن أول مهمات الحاكم في الإسلام هي أن يكون أمينا على المال العام، وأن يؤدي للشعب حقه، وبالمقابل أن يؤدي الشعب للدولة حقها، فعندئذ تظلهم مظلة الحق جميعا وهي قائمة على أعمدة العدل والصدق والثبات. وبهذا يتخندق الجميع معا (الهيأة الحاكمة والشعب) لأجل بناء وترسيخ مقومات الدولة والمحافظة على بقائها وتحصين المناطق الرخوة فيها سواء في تخومها وثغورها أم في إصلاح ما تصدع من علاقاتها الاجتماعية والتعاون في إعادة ما يعتري المدن من تآكل في خدماتها.
وفي هذا الصدد يقول الإمام علي عليه السلام: (فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ) وعلى ضوء هذا التلاحم بين الهيأة الحاكمة والشعب فإن الإمام علياً(عليه السلام) كثيرا ما كان يذكر الذين استخلفهم على تلك الولايات بما جرى في الماضي على الظالمين الذين اتخذوا الباطل منهجا لحكمهم، فيحذرهم من أن تغلبهم أهواؤهم عند توليهم تلك الولايات، فيكونوا مثل الذين من قبلهم، حجبوا عن الناس حقهم فاضطر الناس لشراء حقهم منهم بالرشوة، فيقول عليه السلام: (فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا النَّاسَ الْحَقَّ فَاشْتَرَوْهُ).
ومن النتائج السلبية لهذا التوجه المنحرف من الهيأة الحاكمة وبطانتها بتغييبهم للحق واظهار معالم الباطل: إحداث بدعة منحرفة يتبعها الأبناء بعد الآباء، فيقول(عليه السلام) في ذلك: (وَأَخَذُوهُمْ بِالْبَاطِلِ فَاقْتَدَوْهُ).
خلاصة وفائدة:
نستخلص من هذا الانموذج أمورا مهمة منها:
1. إن من الحقائق الثابتة التي تلازم الهيأة الحاكمة من عدل او باطل تجده في قلوب الشعب ومشاعرهم، ويظهر بعد حين سلبا او ايجابا لمن يحكمهم، والإمام يترجم هذا التلازم بين الحاكم وشعبه بعبارة معبرة جاء فيها: (قلوب الرعية خزائن راعيها فما أودعه فيها من عدل أو جور وجده فيها).
2. الإمام علي(عليه السلام) يعطي مساحة واسعة من خطبه ومواعظه لاختيار من يُعين بالهيأة الحاكمة، فيحذر من اشراك من كان للأشرار وزيرا ومن كان مشاركا في إجرام وآثام الحكومات الجائرة، لأن هؤلاء نبات ارض الحاكم الجائر، هدفهم تغيير مسار الهيأة الحاكمة الجديدة من الحق إلى الباطل فيقول(عليه السلام): (إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الْآثَامِ).
الانموذج الثاني:
ورد أن احد ولاة الإمام(عليه السلام) استحوذ على المال العام بغير وجه حق بعد أن أشركه الإمام(عليه السلام) في أمانته – وهي تولي أمور المسلمين- التي ائتمنه الله عليها، فوجّه عليه السلام كتابا إليه جاء فيه: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَ بِطَانَتِي). والشعار: ما يلي الجسد من الثياب، والبطانة تعني انه جعله من خاصته.
وهذا يدل على أهمية اختيار أفراد الهيأة الحاكمة، ولكن قد يحدث ما ليس في الحسبان، فهذا الذي ائتمنه قد امتدت يده الى المال العام.
ويختم الإمام برصده حركة الحاكم السابق متعجبا ومستنكرا عليه فعله فيقول: (فَسُبْحَانَ اللهِ أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ أَوَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ)، وبعد هذا يسأله الإمام مستفهما: (كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَطَعَاماً وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً) وبعد التوبيخ الطويل يأمره الإمام بتقوى الله ورد المال العام الذي سرقه إلى الناس ليتقاسموه بينهم بالسوية: (فَاتَّقِ اللهَ وَارْدُدْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ).
ثم يعطي الإمام مثلا للحكّام، فيقسم بأن ولديه – على قربهما منه وكرامتهما عليه- لو فعلا كفعله فإنه لا هوادة له معهما ولا ميل منه إليهما حتى يأخذ الحق منهما فيقول: (وَوَاللهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فَعَلَا مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا).
وبعد هذا يستشرف الإمام الآخرة كأنه من سكانها، ويامره بالإمهال بقوله (فضحِّ رويدا) و(ضحِّ) من (ضحيت الغنم) إذا رعيتها الضحى، ولكن هذا الإمهال يستبطن التهديد بقرب الوصول الى الموت، الذي عنده تتبدد اماله، فيكشف له حسرته الكبرى ومشهد خاتمته المفزعة قائلا: (عُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ وَ يَتَمَنَّى الْمُضيِّعُ فِيهِ الرَّجْعَة).
خلاصة وفائدة:
ونستخلص من هذا الانموذج أمورا مهمة منها:
1. إن الذي يظهر نفسه بأنه قوي بظلمه فإن الإمام خصمه حتى يأخذ الحق منه ويرجعه إلى من أخذ منه كما قال(عليه السلام): (الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ، وَالْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ).
2. لا ظفر ولا نجاح لمن كبلته آثامه، وليس بغالب ولا منتصر من غلب وانتصر بظلمه، اذ يقول عليه السلام: (مَا ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ الْإِثْمُ بِهِ، وَالْغَالِبُ بِالشَّرِّ مَغْلُوبٌ)..
3. إن الإمام عليه السلام يعد الهيأة الحاكمة التي تتعامل مع شعبها بالظلم وتتعالى عليه باستحواذها على المال العام بغير وجه حق بالذل والخسران، وفي ذلك يقول عليه السلام: (من أراد عزاً بغير حق أورثه الله ذلا بحق).

 

نشرت في مجلة الولاية العدد 73

مقالات ذات صله