الامام علي(ع) وفن التعامل مع الناس (4)

IMG_6194

أ.م.د. عبد الرزاق الطيّار

نعني بـ(فن التعامل مع الناس): عملية إنجاز التواصل الناجح بين فردين من أفراد البشر في الأقل أو مجموعة أفراد لتحقيق أهداف معينة، ويقصد بالتواصل معناه الأعم أي التوافق الإيجابي والاستمرار في إجراء فعل ما سواء أكان هذا الفعل قوليا(حديثا أو نقاشا معينا) أو عضليا أو عقليا . وقلنا في حلقة سابقة إن تتبع أسس هذا الفن عند أمير المؤمنين(عليه السلام) يقدم لنا قواعد رصينة وآمنة، يمكن السير في هداها باطمئنان لأنها تحقق لنا الغايتين الدنيوية والأخروية

ونواصل الحديث في هذه الحلقة، فنعرض للمحور الثالث من مهارات التعامل مع الناس، وهي مجموعة من المهارات التي يجب أن يتحلى بها الأفراد القياديون، ومن يتصدون للتعامل مع الناس بصورة مباشرة أكثر من غيرهم، وهذه المهارات تكفل لهم التأثير في المقابل، وجذب الآخر إلى ساحتهم لتحقق لهم النجاح في عملهم والتقدم في مؤسساتهم:
خامسا: التواضع والألفة
التواضعُ صفة المتقين قال عليه السلام : ((فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ، مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاقْتِصَادُ، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ))(1)، وقد دلت التجارب البشرية أنَّ التواضعَ عاملُ جذبٍ ترق له أكثرُ النفوسِ عُنجهيةً وقسوة، ومن يريد التأثير بالناس فلابدَّ له من التواضع، وحتى إذا كان الموقف يتطلب الحزم والقطع والقرار الصعب، فإن ذلك لا يمنع من التواضع، وقد كتب الإمام عليٌّ(عليه السلام) إلى محمد بن الحنفية حين ولاه مصر كتابا جاء فيه: ((وَاخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّينِ وَارْفُقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ، وَاعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِينَ لا تُغْنِي عَنْكَ إِلاَّ الشِّدَّةُ، وَاخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ، وَالنَّظْرَةِ وَالإِشَارَةِ وَالتَّحِيَّةِ، حَتَّى لا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ، وَلا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ، وَالسَّلام))(2)، إذاً هناك موازنة دقيقة بين اللين والشدة وبين التهاون والحزم، ولكن التواضع يمكن له أن يؤطر تلك العلاقة بين كل رئيس ومرؤوس وكل قائد وأتباعه وكل مدير وموظفيه.
وأوصى مالكا الأشتر بالتواضع لرعيته وخصوصا الفقراء منهم، قائلا: ((ولا تُصَعِّرْ خدكَ لَهُم، وتَواضَعْ لله يَرفَعك الله،واخفِضْ جَنَاحَكَ للضُّعَفاءِ))3)، فحري بمن يكون مديرا أو قائدا أو متصديا لعمل اجتماعي أن يتواضع، وأن لا تغره الدنيا إذ أقبلت عليه، ليطمع بعدله ضعفاء الناس وفقراؤهم؛ إذ يُخشى عليهم أن تضيعَ حقوقهم، ويفرط عليهم الأقوياء أو يبخسوهم أموالهم، إذا كان قائدهم متكبرا .
لقد ضَمَّن الإمامُ (عليه السلام) كتبه وعهوده إلى عماله مجموعة من الوصايا التي تحضهم على التواضع، وخفض الجناح لمن يعملون معهم، أو يقعون تحت رعايتهم، وإن أحَسَنَ الفردُ تطبيق تلك الوصايا، فإنها كفيلة له بحب الناس وطاعتهم، وضمانة لتحقيق الرخاء في البلاد، إنها مهارات لجذب الناس والتأثير فيهم، قال (عليه السلام) :(( مَنْ لانَ عُودُهُ كَثُفَتْ أَغْصَانُهُ))(4)، وما أحوجنا اليوم إلى نبذ الشِّدَّةِ والعُنفِ؛ لأنهما سبيل التنافر والفرقة، والتوسل باللين والتواضع؛ لأنهما سبيل التوحد والاجتماع قال أمير المؤمنين (عليه السلام) :(( قُلُوبُ الرِّجَالِ وَحْشِيَّةٌ فَمَنْ تَأَلَّفَهَا أَقْبَلَتْ عَلَيْه))5)، ولا يكون هذا التالـُّف إلا بالتواضع واللين، فهما عاملان لجذب الناس والتأثير فيهم.
سادسا: الصبر
لقد عرض القرآن الكريم للصبر في أكثر من ستة وعشرين موضعا(6)، فقد حثت الآيات الكريمة على الصبر ، وامتدح الله الصابرين، وشرفهم، وأخبر:{إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(7)، ثم توج الله تعالى الصابرين بحبه، قائلا:{وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}(8)، وكان النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) مثالا للصبر، صابرا صبورا محتسبا، وقد قال (صلى الله عليه وآله) : ((ما أوذي نبيٌّ مثل ما أوذيتُ))(9)، ومع شديد الأذى الذي تعرض له من قومه كان يدعو ربه قائلا:((اللهمَّ اغفِرْ لِقَومِيَ، فإنَّهُم لا يَعلَمُون))(10)، ولم يُعَجِّل بالدعاء على قومه أو أعدائه، بل صَبَرَ على أذاهم، فكانت العاقبة الحميدة للنبي (صلى الله عليه وآله)، فقد ساد العرب والعجم، وانتشرت دعوته، وعمت آفاق الأرض، بفضل خلقه الكريم، وهذا شأن الصابرين قال عليٌّ (عليه السلام) : (( لا يَعْدَمُ الصَّبُورُ الظَّفَرَ وَإِنْ طَالَ بِهِ الزَّمَانُ))(11)، فالظفر ونيل المراد يُتَحَصَّلُ بالصبر.
أما عليٌّ (عليه السلام) فلم يكن خُلقهُ إلاَّ نسخة من خلق النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وإذا أردنا أن نتذكر ما لقيه عليٌّ في سبيل دين الله نجده أذىً لا يقلُّ عن أذى النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وخاصة بعد رحيل المصطفى (صلى الله عليه وآله)، فصبر على تلك المصائب كلها: صبر على دفعه عن حقه في خلافة النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله)، بعد إقرارهم له بذلك، ومبايعتهم إياه بالخلافة وبإمرة المؤمنين يوم غدير خم بحضور النبي (صلى الله عليه وآله) عند عودتهم من حجة الوداع، وقال عليه السلام :(( فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى وَفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْبا،…))(12)، وصبر على أخذهم (فدكا) التي نحلها النبي لابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، قال (عليه السلام) : ((بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ وَ نِعْمَ الْحَكَمُ الله،…))(13) وصبر على رد شهادته وشهادة الحسنين (عليهما السلام) وشهادة أم أيمن(14)، وصبر على تحكيم الحكمين، الذي أباه وارتضاه القوم، وصبر على قتال المارقين والخارجين والقاسطين(15)، وصبر وصبر وصبر، وكانت العلة في طول صبره (عليه السلام) الحفاظ على دين الله قائما، وأن لا يرتد الناس إلى الجاهلية بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله).
أما إذا أردنا أن نتتبع أقواله في الصبر، فقد أحصيت اثنين وعشرين موردا عرض فيها أمير المؤمنين للصبر في كلامه المجموع في (نهج البلاغة)، ويدل هذا على أن الصبر ركن متين في منظومة الأخلاق الإسلامية، وسأذكر بعض تلك المواضع ، قال (عليه السلام) : ((رَحِمَ الله امْرَأً سَمِعَ حُكْماً فَوَعَى وَدُعِيَ إِلَى رَشَادٍ فَدَنَا،…، جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ نَجَاتِهِ وَالتَّقْوَى عُدَّةَ وَفَاتِهِ))(16)، فيصف لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) الصبر بأنه مطية النجاة والنجاة هنا الدنيوية والأخروية فمن ركب الصبر نال ما يريد،ومن لم يصبر فسرعان ما يهلكه الجزع قال (عليه السلام) : ((مَنْ لَمْ يُنَجِّهِ الصَّبْرُ أَهْلَكَهُ الْجَزَعُ))(17)، ويصف (عليه السلام) الصبر بوصف عظيم قائلا: ((وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الإِيمَانِ كَالرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلا خَيْرَ فِي جَسَدٍ لا رَأْسَ مَعَهُ، وَلا فِي إِيمَانٍ لا صَبْرَ مَعَهُ))(18)، ويبين لنا هذا الوصف مكانة الصبر في الإسلام، فهو من شرائط الإيمان ومتمماته، بل هو رأسه، وليس الصبر علامة خَوفٍ أو جُبْنٍ ، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : (( الْعَجْزُ آفَةٌ، وَالصَّبْرُ شَجَاعَةٌ، وَالزُّهْدُ ثَرْوَةٌ، وَالْوَرَعُ جُنَّةٌ))(19)، فالصابر قادر على الفعل ولكن حلمه يمنعه من العجلة، وهذه شيمة الكرماء وسمة الحكماء، وإذا كانت كذلك فلاشكَّ أن من يكثر تعامله مع الناس يكون ناجحا بقدر ما يمتلك من الصبر، وإلا فالعجلة ستكون الآفة التي تقضي عليه .
———————————-
1- نهج البلاغة: 2\160، شرح نهج البلاغة: 13\ 147 .
2- نهج البلاغة: 3\75، شرح نهج البلاغة: 17\ 3 .
3- تحف العقول: 141، نهج البلاغة: 3\75
4- نهج البلاغة: 4\185، شرح نهج البلاغة: 19\ 35 .
5- نهج البلاغة: 4\150، شرح نهج البلاغة: 18\ 180 .
6- البقرة: 153،155،177،249، آل عمران: 17،142،146، الأنفال: 46،66، الأنبياء: 85، الحج: 135، الأحزاب: 135، الصافات: 102، محمد: 31، القصص: 80، الزمر:10
7- البقرة: 153 .
8- آل عمران: 146 .
9- مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب:3\42، بحار الأنوار: 39\56 .
10- إقبال الأعمال: ابن طاووس:1/385، بحار الأنوار:95/167، مسند أحمد:1/441، صحيح البخاري:4/151، صحيح مسلم:5/179 .
11- نهج البلاغة: 4/40، شرح نهج البلاغة: 18\366 .
12- نهج البلاغة: 1/31
13- نهج البلاغة: 3/70
14- ينظر: تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي:338
15- ينظر: كتاب الغدير: الأميني:1/196 وما بعدها.
16- نهج البلاغة: 1/125
17- نهج البلاغة: 4/179
18- نهج البلاغة: 4/154
19- نهج البلاغة: 4/139

نشرت في الولاية العدد 75

مقالات ذات صله