مع رزيّة الخميس

hqdefault

صلاح عبد المهدي الحلو

في مثل هذا اليوم الدامع الحزين الذي بكت فيه عيون الفجر أشعة نهارها, وتأوهَت انفاس الشمس بزفير حرقتها, رحل رسول الله (صلى الله عليه واله).
يالترنيمة الأسى التي تشدو بها شفاه الكون, ويالرنّة الحزن التي ترنّ في أسماع الدهر, لقد رحل فارس الرسالة, والتحق بالرفيق الأعلى ذلك الرسول. وان ركائب الألفاظ لتتيه في صحراء وصف الأسى الذي ألبس المشاعر ثوب الآلام, وان شفاه الكلمات عطشى لماء تلك المعاني التي تحيط بذلك الحادث العظيم والفاجعة الكبرى.

 

تعالوا نؤرخ معا قصة رحيله, كيف ودّعه أحباؤه وخلصاؤه, وكيف غدر به بعض اصحابه, وتعالوا نسمعها من ابن عباس كما ترويها آهات نشيجه التي تكسرت في صدره ودموع حزنه التي تتلألأ في عينيه, يقول حبر الامة كما روى البخاري في
كتاب الجهاد: (يوم الخميس، وما يوم الخميس) ثم بكى حتى خضّب دمعه الحصباء، فقال: اشتدّ برسول الله(صلى الله عليه وآله) وجعه يوم الخميس فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هجر رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت اجيزهم، ونسيت الثالثة.

نظرة في فحوى الرواية
ان قول ابن عباس (يوم الخميس وما يوم الخميس) فيه تفخيم لامر ذلك اليوم كناية عن الحدث الجسيم الذي وقع فيه, وهو بعد ان اكّد رهبة هذا الحدث بتهويله، لم يكتف بذلك بل شفعه بشهادة عملية، وهي انه بكى لدرجة ان دمعه خضب الحصباء.
نلاحظ ها هنا ان رسول الله(صلى الله عليه وآله) اشتد به الوجع، ولكن ذلك لم يثنه عن ان يامر بان ياتوه بدواة ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده ابدا. ولكن ما كانت ردّة الفعل؟ لقد حدث هناك نزاع, واللافت للنظر ان هذه الرواية لم تصرح لنا بمن قدح شرارة هذا النزاع, ولم تخبرنا بشخوص المتنازعين, هل سكت عن ذلك ابن عباس؟ ام البخاري؟ ام حلقة الوصل بينهما من الرواة؟ هذا امر, والامر الاخر لِمَ سكتوا؟
في هذه الفقرة من الرواية ينبغي لعين الفضائل أن تسكب عبرات الأحزان, ويجب على قلب الشرف أن يزفر بحسرات الآهات.
والأمر المهم أن الرواية أهملت أمورا عظيمة، فهاهو رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع انه في آخر ساعات حياته يوصي بالمهم من أمور الرسالة، ولكنهم نسوا الوصية الثالثة، أليس هذا غريبا؟

من هو القائل: (يهجر) وما معنى ذلك؟
إذا قرأنا هذه الرواية بلسان راويها نفسه ومن كتاب البخاري أيضا سنرى أمرين:
الأول: أن الرواية تصرح باسم القائل.
الثاني: أن عبارة (هجر رسول الله) هذّبت إلى(غلبه الوجع).
ففي كتاب العلم: «عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي(صلى الله عليه وآله) وجعه قال ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي(صلى الله عليه وآله) غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله(صلى الله عليه وآله) وبين كتابه»
نلاحظ ان الرواة أبهموا اسم القائل حين جاءوا بلفظته الشنيعة تلك انه هجر, ولكن لم يمانعوا من ذكر اسمه لما زوّقوا كلمته وهذبوها.
وهذا لم يمنعهم من تبرير قولته في الرواية الاولى (انه يهجر) فقالوا: ومعنى (هَجَرَ) في اللغة هو اختلاط الكلام بوجه غير مفهِم و هو على قسمين: قسم لا نزاع لأحد في عروضه للأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) وهو عدم تبيين الكلام لبحَّة الصوت وغلبة اليبس بالحرارة على اللسان كما في الحميات الحارة، و قد ثبت بإجماع أهل السير أن نبينا(صلى الله عليه وآله وسلم) كانت بحة الصوت عارضة له في مرض موته (صلى الله عليه وآله وسلم)، والقسم الآخر جريان الكلام غير المنتظم أو المخالف للمقصود على اللسان بسبب الغشي العارض بسبب الحميات المحرقة في الأكثر، وهذا القسم وإن كان ناشئاً من العوارض البدنية ولكن قد اختلف العلماء في جواز عروضه للأنبياء، فجوزه بعضهم قياساً على النوم، و منعه آخرون.
وفي هذا الكلام الركيك مواقع للنظر, إذ ان الخلط في الكلام لم يحصل في كلام الرسول(صلى الله عليه وآله) بدليل انهم فهموا جيدا ما قاله ونقلوه صريحا في الرواية, وما قالوه ليس دفاعا عن عصمة الرسول(صلى الله عليه وآله)، ولكنه دفاع عن قائل تلك المقالة، وهذا الدفاع اشد شناعة من قول القائل, لانه قال قولته تلك مجردة من الدليل، وهؤلاء اكدوها مشفوعة باستدلال, ولست ادري كيف تكون البحة في صوته مانعة من فهمهم لكلامه؟ مع ان هذه البحة نفسها لم تكن مانعة من فهمهم لكلامه لما قال لهم: (قوموا عني)، ولما قال لهم: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت اجيزهم..).
وقالوا أيضا في معرض الدفاع عن القائل: لعلَّه(صلى الله عليه وآله) حين أمرهم بإحضار الدواة لم يكن قاصداً لكتابة شيءٍ من الأشياء، وإنَّما أراد مجرَّد اختبارهم لا غير، ويرد عليه انه(صلى الله عليه وآله) عندما كان في آخر ايام حياته على وشك اللحوق بربه، كان في مقام الاعذار والانذار ولم يكن في مقام الاختبار، ثم انه(صلى الله عليه وآله) إذا لم يسعه اختبارهم طيلة عمره الشريف فكيف يسعه ذلك في هذه الساعات المحدودة؟
ثم قالوا: ان القائل اراد التخفيف عليه (صلى الله عليه وآله) من مشقة كتابة ذاك الكتاب، ويرده ان التخفيف عليه يكون باطاعة امره وتنفيذ مراده, وهو اعلم بما يقول وليس لغير المعصوم ان يعلّم المعصوم كيف يتصرف.

هكذا كان وداع الامة
هكذا كان وداع الامة لابيها, ذلك الأب الحنون والمشفق عليهم، ودّع الدنيا وفي عينه مشهد ذلك العقوق حين منعه القوم من كتابة تلك الكلمات, لك الله يا رسول الله, صلى الله عليك وعلى آلك، وانت تبصر من وراء ستار الغيب شخص المخاطر يحدق بمسيرة الاسلام, ولكن مما يهون الخطب ان لك ولدا قائما سيرد الحق الى نصابه, ويعيد الاسلام الى طريقه.

 

نشرت في الولاية العدد 76

 

 

مقالات ذات صله