وقفة مع مفهوم الادب العالمي

Book-Art-017

د. علي مجيد البديري

 

وضع مصطلح (الأدب العالميworld literature) الأديبُ الألماني (غوته Goeth) في العقد الثالث من القرن التاسع عشر، وقصد منه بلوغ الآداب القومية المختلفة حضوراً عالمياً بفضل تطور وسائل الطباعة والنشر والنقل نتيجة الثورة الصناعية التي غيّرت الحياة في الغرب، إذ سيحدث ذلك تأثيراً في واقع الآداب، ويخرجها من حدودها القومية الضيقة باتجاه العالمية، لتجتمع أرقى الأعمال الأدبية من مختلف الآداب تحت مظلة أدب عالمي واحد، وهو يرى الأعمال الفنية العظيمة تتوجه إلى مخاطبة الناس مباشرة حينما تعيد صياغة التفكير والاحساس بالواقع .(ينظر : النور والفراشة رؤية غوته للإسلام وللأدبين العربي والعالمي: 62)

 

رأى (فان تيغم) أنّ الأدب العالمي على وفق رؤية (غوته) أمر محال، وقال ببديل عنه هو كتابة تاريخ للآداب العالمية بطريقة يعنى فيها بالنماذج الأدبية التي حققت رواجاً وشهرة وتأثيراً في الآداب الأخرى، وذلك لما تحمله من قيم فكرية وفنية عالية من أمثال مؤلفات هوميروس ودانتي وشكسبير وغوته وغيرهم.
وأكد (فان تيغم) على ضرورة أن يتوخى الباحثُ الدقةَ في أثناء دراسته هذه النماذج، فهناك أدباء تتفاوت قيمة حضورهم خارج حدود آدابهم القومية بشكل يختلف عن قيمة هذا الحضور والتأثير داخل آدابهم، ومن جانب آخر فإن هناك كُتَّاباً يُعدّون من الدرجة الثانية على الرغم من تأثيرهم الكبير في آداب عصورهم، وفي ذلك إشارة من (فان تيغم) إلى أن هناك آداباً ذات إشعاع محدود لأسباب خارجة عن مجال الأدب والقيم الفنية، ولم تلق العناية اللائقة من الباحثين والدارسين .
أما (هنري ريماك) فيرى في اعتماد عناصر الزمان والمكان والنوعية والقوة في دراسات الأدب العالمي خللاً كبيراً يوجِّه هذه الدراسات نحو نصوص بعينها ويهمل أخرى لها الحق في أن تنال عناية الدراسين، فمثلاً يكون نصيبُ الأدب المعاصر ـ لحداثة زمنه ـ قليلاً في نطاق الأدب العالمي؛ لأنَّ الأخير يُعنى بالأدب الذي نال إجماعاً على رقيِّه وعظمته بفضل اختبار الزمن وتعاقب تلقياته، وأثبت قدرته على الصمود مثل: الكوميديا الإلهية، ودون كيخوته، والفردوس المفقود وغيرها من الأعمال الأدبية. (ينظر: آفـاق الأدب المقارن عربيـاً وعالميـاً:57 وما بعدها)
ويقترح (كلوديو غيان) مصطلح أدب العالمLiterature of the world بدلاً من العالمية، واضعاً ثلاثة تفسيرات له:(الأدب المقارن من العالمية إلى العولمة: 188ـ 189):
الأول: الإنتاج الشعري الذي ينتمي إلى العالم ومن أجل العالم، ويتجاوز حدود أو نطاق الإنتاج القومي أو المحلي في رؤيته .
الثاني: الأعمال التي استطاعت أن تنتشر في أنحاء العالم ربما بفضل إبداعها الذاتي أو المناقشات التي دارت حولها بين النقاد والقراء من مختلف أنحاء العالم.
الثالث: القصائد التي تعكس العالم، وتتكلم باسم البشر جميعاً حول التجارب الإنسانية الدائمة المشتركة، والتي تسمو سمواً كونياً.
وتحتاج هذه التفسيرات مزيداً من التوضيح، فهناك الكثير من النماذج الإبداعية الشعرية التي كتبت بروح كونية، وعالجت هماً إنسانياً، ولكنها لم ترق إلى مستوى الحضور الفاعل والتأثير الكبير في محيطها، أو في عصرها، وهل يمكن الاطمئنان إلى الحركة النقدية حول بعض الأعمال في كل الأحوال؟ هل نستطيع أن نطمئن دائماً لما يكتب حول بعض الأعمال، وللضجة التي تثار حول الشاذ منها بدعوى الحرية والجرأة؟
هذه بعض الأسئلة التي يمكن أن تثار حول تفسيرات(غيان)، ولا نجدها في ضوء ذلك قدمت حلاً أو عالجت شيئاً من الإشكاليات المثارة حول مفهوم الأدب العالمي وحدوده.
وعلى مستوى الأدب العربي المقارن يقترب (د. محمد غنيمي هلال) من رأي المدرسة الفرنسية، فيرى أن مفهوم (غوته) لمصطلح الأدب العالمي غير واقعي، فالأدب قبل كل شيء «استجابة للحاجات الفكرية والاجتماعية للوطن والقومية، وموضوعه تغذية هذه الحاجات… وخلود الآثار الأدبية لا يأتي من جهة عالمية دلالاتها، ولكنه ينتج عن صدقها وتعمقها في الوعي الوطني والتاريخي وأصالتها الفنية في تصوير آمالها وآلامها النفسية الاجتماعية المشتركة بين الكاتب وجمهوره» (الأدب المقارن: 68).
غير أن (د.هلال) يقترح مصطلحاً بديلاً عن الأدب العالمي هو (عالمية الأدب)، وحينما يحدد ما يقصده منه فإنه لا يخرج عن أن يكون إعادة لمفهوم الأدب العالمي الذي رفضه!
من جانب آخر نجد محاولات جادة لوضع تصورات مقترحة لتحديد المصطلح على وفق رؤية معاصرة، فيقترح (د. عبده عبود) تعريفاً يقوم على شرطين؛ فالأدب العالمي لديه هو: مجموع الأعمال الأدبية التي يتوفر فيها شرطان هما(ينظر الأدب المقارن مدخل نظري و دراسات تطبيقات :346):
1ـ أنها تتمتع بمستوى فني وفكري عالٍ، تقدم من خلاله إضافة جمالية وفكرية إلى الأعمال الأدبية المنجزة في العالم ، بصرف النظر عن قومية هذه الأعمال. ولا يعد العمل الأدبي عالمياً حتى إن ترجم إلى لغات عديدة من غير أن يمتاز بهذه الإضافة النوعية المشار إليها.
2ـ أن تحقق تلقياً متنوعاً خارج حدودها القومية، من خلال الوسيطين الثقافيين: الترجمة والنقد. إذ لا فائدة في أن يسجل العمل الأدبي إضافة فنية وفكرية في مجاله من غير أن يجتاز حدود لغته القومية ، ويحقق استقبالاً عالمياً، لأن أهميته ستقتصر على الأدب القومي الذي ينتمي إليه.
يرتكز هذا التصور إلى مقولات نظرية التلقي، التي تمنح دور القارئ وحضوره ومساهمته في إنتاج النصوص الإبداعية حكم قيمة حول هذه النصوص، على أن التلقي أو الاستقبال الذي يريده د. عبود هو التلقي الخارجي أو العالمي.
ويشترك هذا الرأي مع آراء كثيرة سبقته حول بلوغ هذه النماذج الإبداعية المختارة عالمياً درجة عالية من القيمة الجمالية والفنية، وهو أمر طالما أثار تساؤلات وإشكاليات حول نسبية القيم الفنية والجمالية وارتباطها بسياقها الخاص وفضائها الزمني والمكاني المتغير. ولذا لا يمكن الركون لهذا العامل إلا في حالة ما أسماه (فان تيغم) بصمود العمل الإبداعي أمام الزمن، و تعاقب الآراء واتفاقها على قوته وفرادته.

 

نشرت في الولاية العدد 76

مقالات ذات صله