قراءة في فقرات من دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين

yyy

الشيخ ضياء زين الدين

لا أتعرض في هذه القراءة السريعة لبعض فقرات دعاء الإمام زين العابدين(عليه السلام) في مكارم الأخلاق إلى شيء من المصطلحات التي يتداولها علم الأخلاق، ولا إلى بعض مقولات علمائه ، لئلا أخرج بالحديث عما يهم عامة المثقفين المؤمنين في تربيتهم لأنفسهم ، وما يحتاجونه من هذا الدعاء المبارك من مثل الإسلام وقيمه وتعاليمه الأخلاقية ، إذ يعد هذا الدعاء (وهو العشرون من أدعية الصحيفة السجادية) كنزاً ثميناً يمكن لكل متدبر أن يكسب منه عطاء غير محدود وغير مجذوذ.

 

ولكني أنبه هنا – في البدء من هذه القراءات- إلى ضرورة أن لا يغفل القارئ الواعي لهذا الدعاء معالم الإعجاز في كل فقرة من فقراته، لتكون كل مَعلمة من هذه المعالم -وهي كثيرة- لا رصيداً من الأرصدة غير المتناهية من الهدي الإسلامي في بناء الأخلاق الإنسانية فحسب، وإنما تكون رصيداً من أرصدة الإعجاز العلمي والتربوي للعصمة في هذا المجال أيضاً كما سيظهر لنا في قراءتنا للفقرة الأولى من هذا الدعاء المبارك، إذ يقول الإمام زين العابدين(عليه السلام): (اللهم صلِّ على محمد وآله، وبلغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانتهِ بنيّتي إلى أحسن النيات، وبعملي إلى أحسن الأعمال، اللهم وفّر بلطفك نيتي، وصحّح بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسد مني)، وتتراءى معالم الإعجاز في هذه الفقرة من الدعاء ولو بملاحظة سريعة للنقاط التالية منها:
النقطة الأولى: البدء بالصلاة على محمد وآله إذ يقول الإمام(عليه السلام): (اللهم صلِّ على محمد وآله)، وبهذه الفاتحة للفقرة -بل للدعاء كله باعتبارها الفقرة الأولى منه- يحقق الإمام في هذا الدعاء المبارك فاتحة كل خير وبركة في كل أفق من الآفاق التي يستوعبها هذا الدعاء، وما يمكن للإنسان أن يستنزله من مولاه تعالى من تلك البركات وهو يلجأ إليه ، ويلوذ بحصنه بقراءته للدعاء.
فهنا وحدة تامة بين محمد وآله(عليهم السلام)، فيمكن للداعي أن يدرك وحدة الخير الذي يطلبه وامتداده في كل صعيد من صعد الحياة، فضلاً عما يشمله هذا الدعاء من أصول الكمال، وعطاء التربية الإسلامية التي تعنيه.
وهنا استظلال لهذه الوحدة بعناية الله تعالى ورعايته الخاصة تُتم الألطاف الإلهية بها عطاءها ورعايتها للإنسان، وإمداده بما يحتاجه من فيوض الخير والبركة، إذ ما كان لحكمة الله (تعالى) أن تتفاوت في شأن من شؤونها، وما كانت رحمته لتقصر في لطف من ألطافها.وحين تتجلى تلك الرعاية الخاصة لمحمد وآله بالصلوات وإعلاء شأنهم على الخلائق في أنفسهم، وفي رفدهم للبشرية بالعطاء الإلهي الهنيء، فمن الطبيعي أن يكون هذا الرفد مضموناً للإنسان من الله تعالى، إذ هو من المستلزمات الواضحة لتلك الرعاية، وما كان لقدرة المولى تعالى أن تعجز عن تحقيق شيء من رعاياتها.
وحين يضمن الإنسان استكمال هذه السلسلة بهذا الشكل الواضح والقويم يعلم أن مسؤولية الانتهال من معين أهل البيت(عليهم السلام)، واستلهام رفدهم تبقى مسؤوليته هو لينال بركة تلك الصلوات في مختلف آفاقها، ومنها الآفاق التي يعرض لها الإمام زين العابدين(عليه السلام) في هذا الدعاء المبارك.
النقطة الثانية: هذا الربط الوثيق بين الخلق كبناء للذات الشخصية على أساس ثابت من الكمال الإنساني، وعمق الإيمان الذي يعتمد عليه هذا البناء، والرصيد اليقيني الذي يستوجبه بناء دين فطري قائم على التبصر السليم، وعلى الرؤية العقلية الرشيدة، وعلى تسلسل واضح للنهج العلمي القويم -كما يجري عليه الإنسان في آفاق حياته العلمية الأخرى- ليكون للدين والإيمان في رؤى أهل البيت(عليهم السلام) امتيازه عما عداه من الأديان والمذاهب الأخرى، إذ يتوحد الإيمان الديني مع النهج العلمي، وتتوحد العطاءات الربانية مع الرؤى العلمية التي يعتمدها الإنسان في وعيه الفطري، أو يكتسبها في بحثه ودراساته للواقع الذي يتعامل معه (وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين).
والربط وثيق كذلك بين الجوانب السابقة واستقامة الذات في الطريق الإلهي الذي يعنيه ذلك الإيمان واليقين، فلا يخرج الإنسان عن تلك الاستقامة في نية من نياته فضلاً عن عدم خروجه عنها بعمل من أعماله، إذ لا يجعل لنفسه في دخائلها غير الإيمان قائداً، ولا غير اليقين والعلم رصيداً، (وانتهِ بنيتي إلى أحسن النيات) كل ذلك من أجل أن ينعكس علم الإنسان وإيمانه واستقامة توجهاته الذاتية على كل ما يأتيه من عمل، وما يقوم به من سلوك(وبعملي إلى أحسن الأعمال).
وطبيعي أن لا يتجلى من الفرد المؤمن – حينئذ ومع هذه الوحدة العامة والترابط الوثيق بين مجمل الأمور المتقدمة- غير الحسن والكمال الإنساني المطلق، وغير الجميل من الأفعال والنوايا، ليصبح هذا المؤمن هو القبس الهادي المضيء للبشرية وهي تتطلع إلى كمالها المنشود .
ولأن الإسلام لا يخرج المؤمن عن مسار حياته الإنسانية الاعتيادية عندما أمره المولى تعالى بإقامة العدل والعزة الإيمانية في الحياة، فمن الطبيعي أن لا تقطع الحجة الإلهية نظرها عن إمكان أن يتأثر الإنسان بما حوله من مجريات الحياة ويستكين للأهواء، مما قد يزيغه – ولو بعض الشيء عن طريق الله القويم- وهنا ترد ضرورة أن تستكمل تلك الرابطة الوثقى بدينه بتنقية كيانه من الشوائب، التي يمكن أن تعوقه عن بلوغ الغاية التي يسعى إليها، فيأتي هذا الدعاء ليطلب من الانسان ان يلجأ إلى المولى سبحانه لاستمداد التزكية والتخلية من المعوقات، ليكتسب القوة والمدد في التسامي والارتفاع في درجات الكمال، سواء على مستوى البناء اليقيني للإيمان، أم على مستوى العزم والتصميم في سبيل الخير، أم على مستوى السعي والسلوك العملي في طريق الله سبحانه، فلا يبرز من المؤمن غير الصلاح وغير الحسن من السجايا والأفعال أم على غير ذلك من الأمور.. (اللهم وفّر بلطفك نيتي، وصحّح بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسد مني) .
النقطة الثالثة: هذا الربط الوثيق بين إشعار الإنسان بضعفه وفقره وحاجته مقابل قوة مولاه وقدرته ورحمته وحكمته، وضرورة أن يسترفد عطاءه في كل ما يهمه ليكتسب بلجوئه إليه وتضرعه له مددا غير متناهٍ من النور يعينه في بناء إيمانه ويقينه، وينال به من معالم الحق ما يضعه في الطريق القويم من حياته، ومن استقامة السبيل ما يبلغ به إلى الكمال الذي ينشده دون عائق إلا حيث تقف به نفسه عن نيل المطلوب، وهو ما ينبغي أن يستعين عليه بإخلاص النية لله وحده، والتمحض إليه بالقول والفعل، دون أن يشرك بعبادة ربه ولا بدعائه إياه أحداً.
تكراراً لقراءة متأنية للفقرة السابقة من الدعاء المبارك تتّضح لنا هذه اللمحات من مواقع الإعجاز من الدعاء: (اللهم صلِّ على محمد وآله، وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانتهِ بنيتي إلى أحسن النيات، وبعملي إلى أحسن الأعمال، اللهم وفّر بلطفك نيتي، وصحّح بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسد مني).

 

نشرت في الولاية العدد 77

مقالات ذات صله