الامام علي(ع) وفن التعامل مع الناس(5)

pppp

أ.م.د. رزاق عبد الأمير الطيَّار

 

عرضنا في اعداد سابقة مفهوم (فن التعامل مع الناس) للمهارات التي يجب أن يتحلى بها القادة والمدراء لضمان نجاحهم في تعاملهم مع الناس، وكان ذلك العرض ضمن محورين: محور (الفهم والتواصل) ومحور(الجذب والتأثير) وكان دليلنا في استكشاف هذه المهارات سيرة أمير المؤمنين علي(عليه السلام).
وبيَّنا أن تتبع أسس هذا الفن عند أمير المؤمنين(عليه السلام) يقدم لنا قواعد رصينة وآمنة لإنجاز التواصل الناجح بين أفراد المجتمع لتحقيق أهداف معينة، ويمكن السير على تلك الأسس العلويَّة باطمئنان، لأنها تحقق لنا الغايتين الدنيوية والأخروية.

 

نواصل الحديث في هذا المقال، فنعرض للمحور الثالث من محاور هذا الفن، ويتضمن مهارات (الحث والحفز) للأفراد لتحقيق التعامل الناجح معهم، ولا شك أن هذه المجموعة من المهارات مكمِّلٌ لما عرضنا له في المقالات السابقة، ويجب على القياديين في الأوقات كلها أن يتحلوا بها ويجيدوا تطبيقها ويتفننوا في استعمالها ليحققوا النجاح في تعاملهم مع أتباعهم أو مريديهم أو من يقعون تحت رعايتهم وإدارتهم في عملهم أو مؤسساتهم.
إذ لا بدّ من أن يتمتعّ القادة والمدراء الناجحون بمجموعة من المهارات التي يتوسلون بها لتحقيق أهدافهم، وتبرز حكمة القائد وحنكته أثناء أوقات الأزمات والأوقات الحرجة، وهنا يعتمد قادة المجتمعات، ومدراء المؤسسات على خبرتهم في التفاعل مع الأحداث، وتحويل النقاط الحرجة إلى عناصر إيجابية، يمكن أن تخدم المصالح الإستراتيجية لمجتمعهم أو مؤسساتهم، وكلما كان هؤلاء الأشخاص متدربين ويمتلكون خبرة عالية في التعامل مع الآخرين تمكنوا من حثهم، وحفزهم لتحقيق أفضل الانجازات على المستويات كلها.
وهناك الكثير من المهارات التي لها شأن في حثّ الآخرين وحفزهم، نذكر منها:

أولا: بثّ الطاقة الإيجابية والتفاؤل في لحظات الضعف
لابدَّ للقائد من أن يدفع الناس نحو الأمل والتفاؤل في أوقات الرخاء وأوقات البلاء، بل حتى في أشد اللحظات صعوبة، كأوقات الهزيمة والألم وفي المحن والشدائد، وليفعل ذلك يجب أن يمتلك رؤية واضحة ودقيقة وأن يكون مؤمنا بها، وأن يُشعر أتباعه بذلك.
ولقد تعاهد الله تعالى أنبياءه في أوقات الشدائد والمحن، وأنزل عليهم السكينة والطمأنينة ورفع من معنوياتهم، مثال ذلك ما حدث بعد معركة أحد وقتل حمزة والتمثيل بجسده وأثر تلك ألأفعال الشنيعة على نفس النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) فأنزل الله تعالى على نبيه قوله تعالى:((وَاصْبِرْ وَمَاصَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ)) (1) فأمر الله نبيه بالصبر، وأخبره بأنّه تعالى شأنه قد مدَّ نبيه بطاقة نفسية إلهية تمكنه من تحمّل تلك الضغوط النفسية، وأن ذلك كلّه في سبيل الله وبعينه ورعايته، ثم رفع من عزيمته وأمره أن لا يحزن من فعل الكافرين، وأن يرفع عن صدره الضيق ممّا يمكرون، وهناك كثير من الآيات التي تبشّر نبيّه (صلى الله عليه وآله) بالنصر، وأنّ الله تعالى يدافع عن الذين آمنوا، وأنّ الله ينصر من ينصره، وغيرها(2) كان لها الأثر الأكبر في رفع معنويات المسلمين الأوائل وحفزهم لنشر الدين الجديد.
واستعمل النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) هذه الطريقة في هجرته إلى المدينة وهو في الغار حيث كان صاحبه يرتعد من الخوف، فما كان من النبي إلا أن طمأنه قائلا: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّم تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(3)، وإن استشراف المستقبل ينفع في رفع معنويات الأشخاص ويحفزهم لتحمل الصعاب والمتاعب مهما كبُر حجمها.
ولقد استعمل أمير المؤمنين(عليه السلام) هذه الطريقة مع أتباعه في معركة النهروان التي قاتل فيها الخوارج، إذ انتشرت الإشاعات بين صفوف جيش الإمام(عليه السلام) أنّ الأعداء قد عبروا نهر النهروان وقد أخبروه بهذا الخبر أكثر من مرَّة، ولكن الإمام(عليه السلام) كان على بصيرة من أمره فكان يقول لهم: (مَصَارِعُهُمْ دُونَ النُّطْفَةِ، وَاللَّهِ لا يُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ وَلا يَهْلِكُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ)(4) ، وبالفعل كان كما قال(عليه السلام) فلم يقتل من جيشه إلا ثمانية ولم يفلت منهم إلا تسعة رجال(5) ولم يعبروا النهر، لقد كانت كلمات الإمام عاملا إيجابيا حثّ المقاتلين على النيل من عدوّهم وتحقيق النصر بأفضل الصور، والأمثال في هذا الباب كثيرة لكن المقام يمنعنا من الإطالة.

ثانيا: شعور الأتباع بالأمن والاطمئنان للحقّ
أكثر ما يحفز الأفراد إلى العمل بجدٍّ شعورهم بحب قائدهم أو مديرهم لهم، وعلمهم بذلك الحب واستشعارهم له، وبعد ذلك ثقتهم بعلمه وحكمته، وخير مثال على ذلك ما حدث في حرب عليٍّ(عليه السلام) في صفين، فكان في الجيشين مَنْ يُقاتل وفي قلبه شَكٌّ أهو على الحق أم على الباطل، ولكن رجلاً مثل عمار بن ياسر كان يقاتل على بصيرة من أمره، لأنّ ثقته بقائده كانت راسخة، وعلمه به نافذٌ.
روى ابن عساكر عن عبد الله بن سلمة قائلا: (رأيت عماراً يوم صفين شيخا كبيرا، آدم طوالا، آخذ الحربة بيده، ويده ترعد، فقال: والذي نفسي بيده، لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث مرات، وهذه الرابعة، والذي نفسي بيده، لوضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعرفت أنناعلى الحق، وأنهم على الباطل )(6) .
إنّ شعور عمار بالأمن والاطمئنان لكونه مع عليٍّ(عليه السلام) جعله يخوض الحرب وهو شيخ كبير بعزم وقوة إرادة لا نظير لها، بل كان معيارا للحق.
إذ روى الطبري عن أبي عبد الرحمن السلمي قوله: (رأيت عمارا لا يأخذ واديا من أودية صفين إلاَّ تبعه من كان هناك من أصحاب محمد)(7)، وهكذا كان أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) تهفو نفوسهم إلى إتّباع عمار؛ لأنهم على يقين أنّ عماراً تقتله الفئة الباغية، فما كان منهم إلا إتباعه.
قال البلاذري: (شهد خزيمة الجمل، فلم يسل سيفا، وشهد صفين فقال: لا أقاتل أبدا حتى يقتل عمار، فأنظر من يقتله، فإني سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (تقتله الفئة الباغية) فلما قُتل عمار قال خزيمة: قد أبانت الضلالة، ثم اقترب فقاتل حتى قتل)(8)، وهكذا نرى أن الفرد متى ما شعر بالأمن والطمأنينة، فعل ما يقتضيه منه الموقف، وإن كان الفعل الإقدام على الموت في المعركة، فإنه سيقدم بكل شجاعة ويقاتل ببسالة لثقته بقائده وقضيته.
إن على القادة أن يُشعروا الأتباع بالأمن والطمأنينة، وعلى المدراء أن يوفّروا مناخا آمنا للعمل في مؤسساتهم؛ لأنّ النتيجة الإيجابية التي سيحصلون عليها من تلك الأجواء ستحقّق لهم التقدم والنجاح والتميز في مؤسساتهم، وهذا عليٌّ(عليه السلام) يأمر مالكا الأشتر بذلك قائلا: (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاتَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً، تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْق)(9).
إن هذه الكلمات تُشعر الناس بالانجذاب والاطمئنان، وتحفزهم على الطاعة والعمل بإخلاص مهما كان العمل صعبا وشاقا، ولقد كان جنود نابليون يثقون بأنه لا يقودهم إلا إلى الانتصارات فيقولون: إن بإمكانه أن يأخذنا معه إلى نهاية العالم(10) .

——————
الهوامش:
1 – النحل : 127
2 – ينظر : غافر: 51، الحشر:11، الحج:15، 40، الحديد:25
3 – التوبة : 40
4 – قال الرضي رحمه الله يعني بالنطفة ماء النهر،وهيأ فصح كناية عن الماء وإن كان كثيراجما، ينظر : شرح نهج البلاغة:5/3
5 – ينظر : نهج البلاغة : 1/107-108
6 – تاريخ مدينة دمشق :43/362-363
7 – تاريخ الطبري 4/305
8 – أنساب الأشراف : 313-314
9 – نهج البلاغة : 3/82
10 – ينظر : فن التعامل مع الآخرين / تحفيز الإنسان د. طارق السويدان :(بحث إلكتروني)

 

نشرت في مجلة الولاية العدد 78

مقالات ذات صله