بديع نظم القرآن

Verses-of-the-Quran

د. خليل ابراهيم المشايخي

لا خلاف في أن النظم القرآني نظم فريد في علوه وسموه، وأنه أعلى كلام وارفعه وأدقه، ومن ذلك عنايته بفواصل الآيات الكريمة التي وُلدت انسجاما أخّاذا له الأثر البين على السمع ووقعا مؤثرا في النفس.
لذلك نجد تقديم بعض المفردات وتأخير بعضها انسجاما مع فواصل الآيات، فنجد ان الإبدال حاصل بين المفردات ونجد أنه يبدل كلمة بكلمة اخرى لتكون الفواصل منسجمة ايقاعا مع ما قبلها وما بعدها وأكثر وقعا في النفس وهو في كل ذلك يراعي ما يقتضيه التعبير والمعنى.

 

إن نظم القرآن على تصرف وجوهه وتباين مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلام العرب، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله اسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد.
وذلك ان الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم تنقسم الى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفّى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل ارسالاً، فتطلب فيه الإصابة والإفادة، وإفهام المعاني المعترضة على وجه البديع، مرتب ترتيبا لطيفا وإن لم يكن معتدلا في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يُتعمّل فيه، ولا يتصنع له.

كلام خارج عن وسع البشر:
والقرآن الكريم خارج عن نطاق الشعر أو الكلام المسجوع، وهذا يعني انه خارج عن العادة وأنه معجز، فليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، وقد قال عز من قائل: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)النساء/82
فالله سبحانه وتعالى يخبرنا أن كلام البشر إن امتد وقع فيه التفاوت ويتباين على ما ينصرف اليه من الوجوه، الا القرآن الكريم الذي يشتمل على وجوه عديدة، من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، واعذار وانذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف وتعليم اخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها.
ولكن تجد تباينا في شعر الشاعر البليغ على حسب الأحوال التي يترف فيها بالغاية في البراعة في المعنى، فإذا جاء الى غيره قصر عنه وبان اختلاف في شعره.

تصرف مختلف على حد واحد:
واذا تأملنا نظم القرآن لوجدناه يتصرف في وجوه كثيرة على حد واحد، في حسن النظم، وبديع التأليف والرصف، وإذا تأملنا الآيات الطويلة والقصيرة لوجدنا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف.
وقد يتفاوت كلام الناس عند اعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتا بينا ولكن لا تجد تفاوتا فيما يذكره القرآن ويعيد ذكره من القصة الواحدة فهو على نهاية البلاغة، وغاية البراعة، وهذا يدل على انه مما لا يقدر عليه البشر.
إن القرآن على اختلاف فنونه وما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة والطرق المختلفة يجعل المختلف كالمؤتلف والمتباين كالمتناسب، وهذا أمر عجيب، تبين به الفصاحة، وتظهر به البلاغة ويخرج معه الكلام عن حد العادة.
وهناك معنى مضاف الى هذه المعاني وهو أن الذي ينقسم عليه الخطاب من البسط والاقتصار والجمع والتفريق والاستعارة والتصريح والتجوز والتحقيق، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم ـ موجودة في القرآن ـ وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم، في الفصاحة والابداع والبلاغة.

بديع موافقة المعاني للنظم:
وهناك معنى آخر ايضا وهو أن المعاني التي تضمنها والأحكام والاحتجاجات جاء موافقا تماما لتلك الألفاظ البديعة، موافقة لها في اللطف والبراعة، مما يتعذر على البشر ويمتنع، ويضاف الى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه ويراد تحقيقه، فتجد في النهاية أن الألفاظ جاءت وفق المعنى، والمعاني وفقها، لا يفضل احدهما على الآخر.
ومعنى آخر مضاف إلى هذه المعاني وهو ان الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته، بان تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام، أو تقذف ما بين شعر، فتأخذها الأسماع وتتشوق إليها النفوس ويرى وجه رونقها باديا غامرا سائر ما تقرن به.
وهناك معنى آخر أيضا هو: أن الحروف التي بُنى عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفا، وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة، وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهي أربعة عشر حرفا، لكي يتبين أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم.

 

نشرت في الولاية العدد 78

مقالات ذات صله