المعطف (قصة قصيرة)

photo1369766508_871

صلاح عبد المهدي الحلو

الدموع كانت تتلألأ في عينيه وهو يرى صورة ابنه القتيل في أول صفحات الجريدة اليومية, رفع راسه ونظر الى الضابط بانكسار وقال بصوت مبحوح ونبرة حزينة: أنا من جنيتُ على ولدي، حبّ المال غلب على قلبي, وشهوة القتل ملكت نفسي…
قاطعه الضابط بحدة: احكِ لنا قصتك من الاول, أُريد ان افهم البداية.
– حسناً,انت تريد ان تفهم البداية؟ البداية كانت من ذلك اليوم الذي التقيت فيه بأحد الاغراب عن المدينة, كان رجلاً غريب الاطوار, متجهم الوجه, يرتدي ثوباً قصيراً وبيده مسبحة, قال لي: لقد سألت عنك فقالوا انك تعمل شرطياً في مركز المدينة, وانك ماهرٌ في القنص.
اجبته وقد زان صوتي نبرة الإعجاب بالنفس: نعم, وكنت بطل الجيش في مسابقة الرمي بالمسدس.
بدت عليه علامات السرور واخرج رزمة من النقود, كانت حمراءَ من فئة الخمسة والعشرين الفاً, كبّلَ وهجها الارجواني أكف بصري, وقد التمع بريق الطمع في سماء عيوني,لاحظ الغريب ذلك وعرف نار الشهوة العارمة للمال التي استعرت في ملامح وجهي شوقا.
سألني: هل تعرف أبا علي؟ وأردف قائلاً: جارك الذي على اليمين.
اجبته: نعم اعرفه, ولده عليٌ جاء من الخارج تواً, اكمل دراسة الطب في لندن.
تبسّم الرجلُ الغريبُ ابتسامةً كشفت عن اسنانٍ صفراء منخورة: لقد سهلت عليّ مهمتي, هذا الفتى اريد رأسه.
قلتُ وأنا أدسُ الرزمة في جيبي: ومتى تريد التنفيذ؟
– اريدُ ان تفجِع به اباه ليلة العيد, اريد له ان يلطم ويبكي كما يفعلُ في عاشوراء.
– هذه مهمةٌ سهلة, سأهديه لك عيدية.
اشعلَ الضابطُ سيكارة بقداحته الذهبية, ورمقَ نارها المتراقصة بطرف عينه وقال: وكيف اتممتَ المهمة؟
– في ليلة العيد كانت السماءُ ملبدةً بالغيوم, والقمر المتلصصُ يختفي حيناً ويظهر حيناً اخر, بدت من بعيد انوار سيارةٍ قادمة تشقُ صدرَ الليلِ بأضوائها الكاشفة, وكان صوت محركها يفري صمت المكان بهديره الصاخب, ترجّل منها عليٌ وكان يرتدي معطفاً اسود، ومعه شخصٌ آخر لا يرتدي سوى قميص، مع انّ الجو شديد البرودة, يبدو انه من أصدقائه لم استطع ان اتبيّن وجهه تحت ضوء القمر لأنه كان ملثماً.
الشيء الذي حيرني في الامر لِمَ جاء مبكراً عن وقته بنصف ساعة؟ لم افهم الامر حينها.
كانت سحب الدخان تتطاير من سيكار الضابط, رسمَت حلقاتٍ دائريةً في الهواء, فسأل بعد ان اخذ نفساً من الدخان: ولماذا لم تقتله حينها؟
– اردتُ ان يكون وحده, لتكون المهمة اسهل, كان عليّ ان انتظر الى ما بعد منتصف الليل حين يكون موعد انتهاء خفارته الليلية…
-أكمل.
– كنتُ اتحسسُ مسدسي بيدي, كما يتحسسُ حبيبٌ خدّ حبيبه, وانتظر موعد الضحية كما ينتظر الحاجّ عيد الاضحى, وكانت عقارب الساعة تسيرُ ببطء, وكأن شخص الوقت قد مات, فلم تعُد هناك دقائق تسير ولا ثوانٍ تمشي.. متى سأجعل معطفه يسبح في دمائه؟
حانت ساعة الصفر, بعد ربع ساعة خرج علي, يرتدي معطفه الاسود نفسه, كان هذه المرة ملثما بلثام صديقه نفسه, لم اعرف سر ذلك, وكان وحده هذه المرة ولم يكن صديقه معه, لا وقت لدي للتحليل.. لماذا جاء قبل موعد الخفارة.. لماذا خرج بعد ربع ساعة.. لماذا جاء مع صديقه وخرج وحده.. لماذا خرج ملثماً؟
اخرجتُ مسدسي من جيبي, سوف امارس هوايتي المفضلة، صيد البشر, ما اروع ان اسمع الضحية وهي تتهاوى على الارض تحت نور الطلقات الخافت, وأرى يدَ النزيفِ وهي ترسمُ لوحةَ نهايتها.
هاج وحش الرغبة بالقتل في صدري, وازداد ضراوةً ووحشية, وكان لرؤية فوهة المسدس وهي تغريني بسفك الدماء مفعوله السحري في تأثيره على سرعة القرار بإنهاء حياة انسانٍ وحسمه.
ركب الرجلُ الملثمُ السيارة, انه غريمي علي, اقتنصتُ فرصة طلوع القمر من وراء السحب, غسل المكان بشلال انواره الفضية, وغمره بضوئه الضاحك, وتحت بصر هذا الشاهد الاخرس, نور القمر, صوّبتُ فوهة المسدس إلى مابين عينيه, لن أخطئ الهدف, سأزرعها له في جبهته وفي اللحظة التي أراد أن يغلق بها باب السيارة رنَّ الهاتف, لم أحفل به, كنتُ مشدوداً مرهف الحسّ, وضغطت على زناد المسدس, وسرعان ماسقطت الضحية, رأسها على الارض, وجسمها داخل السيارة.
الان ارجعتُ مسدسي الى جيبي, واختفى ضوءُ القمر الباهت وراء ستار السحب السوداء الحُبلى بأجنّة الامطار, ورجعت الى البيت.
– وماذا حدث بعد ذلك؟
قال وهو يرفع الجريدة التي فيها صورة ابنه القتيل امام انظار الضابط: هذا الذي حدث.
عندما ذهبت الى البيت تلقتني زوجتي وفي حنجرتها رعشةُ خوف وبادرتني الكلام بحدة: اين كنت، لِمَ لمْ تردّ على اتصالي؟
كانت هي من اتصل بي وانا انفذ العملية، وسألتها بفضولٍ: ماذا حدث؟
لقد مرض ابنك فهد, اصيب بمغصٍ في بطنه وكان يتألم بشدة, وأخذه جارنا الدكتور عليّ الى المستشفى, لقد حدث الأمر بسرعة لدرجة انه لم يستطع ان يرتدي المعطف..
هنا طُرِقَت الباب, ولما فتحتُ الباب كانت المفاجأة, فلقد رأيت عليا الطبيب أمامي, يا إلهي, ألم اقتل علياً للتو؟ ألم يسقط مضرجاً بدمه؟
وسطَ هذه المتاهات قطع صوتُه المتهدّج تفكيري: اعظم الله لك الاجر يا ابا فهد, لقد قُتِل فهدٌ في سيارتي؟
لم ادرك الموقف اول الامر, شعرتُ بالحمى وهي تغزو جسدي وسألته بصوتٍ خنقته العبرة:في سيارتك؟
– نعم, لقد كان يعاني من مغصٍ كلوي, خشيتُ انّ عنده زائدة دودية, لذا سارعت بأخذه الى المستشفى, كانت حقنتان كفيلتين بتسكين المه ريثما افحصه غداً في العيادة, ولما اراد الخروج رايته يرتعش من البرد فأعطيته معطفي الاسود ومفاتيح سيارتي واوصيته ان يتلثم لأن الجو شديد البرودة, وبعد ان خرج بقليلٍ سمعت طلقا نارياً ولما خرجنا من المستشفى رايتُ ابنك مقتولاً.
– وهنا جعل عينيه في عيني الضابط وقال متحسراً: تلك كانت البداية, ورسمت اصابع المعطف مشهد النهاية, وهكذا قتلتُ ولدي.

 

نشرت في الولاية العدد 78

مقالات ذات صله